لقد انهار سدهم بفعل جرذانهم وتفرقوا كما فراخ الحجل.لا أحد منهم يقرُّ لأخيه بسبق أو مكرمة. كنت اعتقد وقد كتبت أنهم يمارسون مسرحية سياسية تقوم على توزيع الأدوار بين طيب وشرير للهروب من المحاسبة السياسية والقانونية. لكني اكتشفت أن خلافاتهم وفرقتهم ليست مسرحية بل هي جوهر وجودهم. فما كان يجمعهم تفتت فتفتتوا غبارا في الريح. عن التجمعيين أتحدث.
معطيات التاريخ.
للمسألة في تقدير جذور تاريخية فمنذ الخروج من معركة التحرير إلى بناء الدولة حول شخص الزعيم الأوحد نصف الإله جذب الجديين والوطنيين إلى الصفوف الخلفية وقدم الفئات الانتهازية إلى مواقع القيادة فتمعشت من منافقة الزعيم ورسخت تقاليد الغنيمة على قدر الولاء. حتى وصلنا إلى سنة 1987 وهي السنة التي انقلب فيها الجنرال الأمني زين بن علي على بورقيبة الزعيم المؤسس. وهذا الانقلاب الذي وصف بالطبي لاعتماده شهادة طبية في فقدان الزعيم لصحته العقلية عمل على إعادة ترتيب الأوراق والمواقع ولكنه اعتمد بسرعة على نفس الفئات الانتهازية التي ألفت حزب (التجمع الدستوري الديمقراطي) بعد حزب الدستور لتعيد نفس سياسة منافقة القائد والغنم بقدر التزلف. فلم تتجدد السياسة ولم تتغير الطبقة السياسية ولم تمر الدولة إلى الديمقراطية المنتظرة. بل قبرت الحريات وأفحش البوليس في دماء الناس وأعراضهم وزاد الأمر سوءا أن فئات الانتهازيين من الدساترة القدامى انفتحت على فئات أكثر انتهازية ترفع شعارات الديمقراطية والتحديث (فئات اليسار الانتهازي) وهي في الحقيقة تخوض حرب استئصال سياسي وثقافي باسم الحداثة لكل من يعارض النظام. حتى دُفِع النظام إلى الانهيار أمام شارع محبط ومقهور. وفي ساعة الانهيار لم نجد الانتهازيين بل اختفوا كما اختفت جرذان سد مأرب أمام المياه المتدفقة. بعد هدوء العاصفة عادوا بأسلوبهم المعتاد(العمل التحتي القائم على التخريب الجبان لمسار بناء الديمقراطية) حيث استعملت كل الوسائل القذرة للعودة والتحكم وأفلحوا في إعادة بناء تحالف مغشوش ربحوا به الانتخابات التشريعية سنة 2014 ودخلوا الحكم من جديد. لكن لكل شيء إذا ما تم نقصان.
أوراق اللعب تبعثرت.
تبين للمتابع أن النظام القديم وإن أفلح في استعادة السلطة إلا أنه لم يفلح في إدارتها فسنة واحدة كانت كافية ليتعرى الانتهازيون أمام استحقاقات الديمقراطية الزاحفة من أسفل رغم فقدانها للقوة العددية. لقد فصلت مجريات الأحداث بين القوتين اللتين كانتا متماسكتين قوة جهاز القمع وقوة المراقبة والضبط الحزبي. نشهد الآن تحوّل جهاز القمع إلى قوة أمن جمهوري مخلص للدولة لا للحزب للحاكم. وذهب بعضها إلى خدمة مصالحه القطاعية عبر نقابات شرسة لا توالي أحدا إلا مصالح منظوريها ولا تقر بمصالح قيادات الحزب وكوادره. أما في الجهات. فلم يعد رئيس الشعبة التجمعي (الذي صار منسق النداء الحاكم) يتحكم في عون الأمن ويوظفه. ولم يعد العون يخاف من رئيس الشعبة الذي صار مواطنا بلا قدرة على كتابة تقريره الأمني. وبالتوازي لم يعد المواطن يسعى في مرضاة الشعبة التجمعية لكي يتدبر أمره أو يجتنب الأذى.
الفجوة بين القوتين دخلت منها قوى جديدة وافتكت لها حقوقا. ولعبت الأحزاب صغيرها وكبيرها دورا مهما في قطع العشب تحت أقدام حزب السلطة. فلما تبيّن للناس أن التجمعي السابق (الندائي الحالي)لم يعد بابا للترهيب أو للمغنم تجاوزوه إلى البحث عن مصالحهم عند غيره أو إلى النضال من أجلها دون وجل. فزاد ذلك في إرباك القوة القديمة على التجميع والتأليف لصالحها. وها نحن نراها عاجزة عن عقد اجتماع جماهيري واحد يحضره ألف شخص دون أموال مدفوعة ودون ترهيب إداري وأمني. لقد خرج مال السلطة وجهاز الأمن من يدي التجمعيين إلى غير رجعة لذلك يعجزون الآن عن الالتقاء وبناء قوتهم السياسية من جديد إنها مؤشرات سقوط الخوف وهي خطوة جبارة في بناء الديمقراطية من أسفل.
عاهة الاستئصال والجهوية العميقة.
فضلا عن هذا الزحف الديمقراطي من القاع تخترق التجمعيين في ثوبهم الندائي الجديد عاهتان مزمنتان عاهة الجهوية وعاهة الاستئصال. وهما تتكاملان في إعاقة الالتقاء من جديد.
فأما عائق الجهوية فقد ترسخ منذ تمكن الزعيم من حكم البلد وميله إلى إيثار جهته (الساحل) وتقديم رجالها والاعتماد عليهم وحدهم بما رسَّخ لدى فئات واسعة منهم أنهم خلقوا ليحكموا وخُلِق الآخرون لطاعتهم. وقد عادت قياداتهم إلى التآلف لكن على الأساس الجهوي (ساحلي)(حامد القروي ومرجان والهادي البكوش الذي لا يظهر كثيرا في الصورة والطاهر بلخوجة) وهو الأمر الذي دفع قيادات أخرى إلى التجميع على أساس جهوي غير ساحلي(منذر الزنايدي/ القصرين وعبد الرحيم الزواري/ الكاف) كان التجمعيون غير السواحلية يقبلون دوما بالمكان الثاني خلف السواحلية وتبين لهم الآن أنهم قادرون على نيل المكان الأول فاتسع الشرخ بين المكونات الجهوية وتحول إلى عائق بنيوي.
أما العائق الثاني فهو البناء على فكرة استئصال المختلف وكان المختلف زمن حزب الدستور هو اليسار ثم لما ظهر الإسلاميون صاروا الهدف الأول للاستئصال ثم بنى التجمع مجده مع بن علي على قاعدة استئصال الإسلاميين .كان الحزب يخلق دوما عدوا داخليا يخوف به الجمهور ويبرر به القمع والاستحواذ. فلما حدثت الثورة وصار الإسلاميون جزءا من المشهد عجز التجمعيون عن لعبة التخويف بهم برغم كل الدعاية الترهيبية في انتخابات 2011 و 2014. حتى وجدوا أنفسهم مضطرين إلى الاشتراك معهم في إدارة البلد. وبعد سنة صار الإسلاميون يديرون البلد من خلفهم ووجدوا أنفسهم ستارا صفيقا عاجزا عن البقاء في الحد الأدنى إلا بالإسلاميين الذين يسحبون الأرض من تحتهم بذكاء وتروٍّ . وفي لحظات التسليم بقوة الإسلاميين تستيقظ نوازع الاستئصال فيتمزق الحزب أكثر. وليس لديهم الآن موقف نهائي بخصوص هذا الشريك البغيض. فهو القصبة التي يتنفسون بها من تحت ماء فشلهم. وقد سلم بعضهم من موقع العاجز لا من موقع الراغب بحق الإسلاميين في الوجود والمشاركة إذ لا يجدون شريكا قويا يعتمد عليه غيرهم.
هل يتوبون ويتطورون ؟
لقد فقد النظام القديم مجسدا في حزب النداء قدرة القمع (باستعمال جهاز الأمن) وفقد الأموال التي يستقطب بها الناس لأن رجال الأعمال الذين مولوه ملوا الابتزاز ويشتغلون الآن لحسابهم الخاص. لذلك يرى السلطة تتسرب من بين يديه وعقده ينفرط وهو في وضع الضفدع الذي جف من حوله المستنقع. ولم يبق أمامه إلا الجنوح إلى العنف الذي يخرب المسار الحالي ويدفع إلى وضع مجهول قد يجد منه فجوة أخرى للعودة. ولكن بمن سينتج العنف الذي قد يأتي عليه؟. العنف الموجه يحتاج إلى المال والرجال. وأعتقد انه فقد منها الكثير فضلا على أن لخصومه الآن مال ورجال فهناك تعادل قوى يمنع احتمال العنف من التطور. وهناك نفور عام من العنف وانتظار لانجاز ديمقراطي في الحد الأدنى. يلح بصبر على البدء في إصلاحات حقيقية. وهي إصلاحات تناقض بالضرورة ما دأب التجمع (النداء) على إنتاجه من سياسات فاشلة.
سنة 2016 ستكون سنة فرجة على مشهد إجهاز النداء على نفسه بنفسه. تحت زحف ديمقراطي من القاع لم يعد ينطلي عليه خطاب التسويف. وقد سمينا ذلك بالهدوء الثوري القاتل. لكن بقدر الفرح بذلك ستكون هناك خيبة فالبديل لم يفهم بعد أن الطريق سالكة ومفتوحة لذلك يتأخر في الظهور. معتقدا أن الغول لا يزال أمام الباب أو لعله يحمل بدوره جينات المرض التجمعي الاستئصال والانتهازية.