التونسيون يتخلون عن ثورتهم

Photo

هذا هو الانطباع الذي خرجت به من آخر تحرك مساندة لهيئة الحقيقة والكرامة، نعم هو انطباع يائس لا علم صحيح، وربما تغيب عنا تفاصيل لا نراها ولكن الظاهر في المشهد أن قطاعا واسعا ممن كان متحمسا للتغيير استسلم لفعل المنظومة في مزاجه ففقد الأمل واستقال محبطا فلم يعد ممكنا تحريكه تحت أي شعار.

تمت الدعوة إلى اعتصام سلمي لليلة واحدة أمام مقر الهيئة كعربون تمسك بالهيئة وحقها القانوني والشرعي في استكمال أعمالها طبقا لقانونها المؤسس، وحرص الداعون وهم أشخاص ماديون لا هيئات حزبية أو سياسية وقد حرصوا على إعلان ذلك خشية التوظيف ولكن انتهى الاعتصام بستة أشخاص تحت جدار بارد حتى أن الشرطي الذي جاء يحسب عددهم فجرا ابتسم ضاحكا وذهب مخبرا غرفة العمليات بأن الأمن مستتب والحالة عادية.

وكان أول الغائبين الضحايا، وكان ثاني الغائبين ممثلا للهيئة يشد الأزر ويدعم بكلمة تشجيع. لقد أدى الاعتصام إلى نتيجة عكسية تقريبا. لا أحد بقي مع الهيئة. رغم الخطابات الكثيرة في السوشيال ميديا بأن الهيئة آخر الحصون المتبقية من الثورة.

يحتفظ الحزبيون بأسرارهم ولا شك أن عندهم الآن جملا جاهزة لتبرير الغياب أهونها أن الداعين للاعتصام ليسوا زعماء ترجى شفاعتهم ولكن النتيجة واحدة. الهيئة الآن معزولة وعناد رئيستها لن يذهب بعيدا. بعضهم قبض الثمن في مكان ما. وننتظر التسريبات لذلك لن نخوض في هذه الأسباب ولكن الذهن ينصرف إلى محاولة فهم غياب قطاع واسع من الشباب فقد الأمل في الشارع فلم يعد يسمع لهم ركزا.

اليأس المخيم على القلوب

يكتب البعض جملا مقتطعة من كل سياق معرفي (دعوا الثورة فإنها مأمورة وستفعل فعلها في النفوس دون دفع أو عناء) وهذه جملة تبرير للتخلي الكسول أكثر منها جملة تحليل الثورة ليس لها محرك غير أبنائها وقد ذهبوا مذاهب شتى بأسباب مختلفة. تخطفت الأحزاب بعضهم وتخطف الباقي السعي في الرزق العسير وشتتت المطلبية المشبوهة الباقي فهم مضربون ويحسبون الزيادات في أجورهم ويقولون حقنا من الثورة.

جُرَّ كثير من الشباب إلى حفرة تصديق النقابة الطاهرة(التي تسمي نفسها في لحظات الديماغوجيا بنقابة حشاد) فلم يروها تتحول إلى ألد أعداء الثورة. كثير من الشباب الآن في خطابهم المقروء على الأقل مع الهيئة ومع النقابة لذلك يتناقضون فيغفلون عن موقفها وهي تنحاز منذ البداية علنا لا مداراة ضد الهيئة ولم يروها تستديم الثارات الأيديولوجية القديمة وفي يدها ورقة حساب التعويضات المحتملة التي قد تنتهي في يد الإسلاميين الذين يشكلون العدد الأكبر من الضحايا.

يغفل كثير من الشباب عن قراءة المناورات الحزبية التي تعلن مساندة مسار الهيئة وتستثني رئيستها كما لو أنها مصدر الشر الوحيد. ويقعون دون وعي في ما يجره إليهم الأعلام الموالي للمنظومة من أن الهيئة هي التعويضات المادية فقط لم تصل الهيئة إلى مرحلة التعويضات (فليس لها مقياس تعويض قانوني خاص بها) فهي تكافح للبقاء من أجل مبدأ أوسع من التعويض المادي ولذلك لا يرى الكثير منهم أن الحسابات السياسية القصيرة الأمد أجهزت على المسار برمته. وضيعت آخر قلاع الثورة أو في الحد الأدنى بثت ما يكفي من الإحباط الذي جعل غالب الشباب يصعد ربوة الانتظار والتمني.

انهيار مستويات الثقة بين النخب السياسية وعامة الناس

إحدى أهم الخسائر التي تعرضت لها الثورة أن النخب السياسية لا تفلح في تقديم خطاب جامع حولالثورة إذ يغلب على خطابها التحشيد الحزبي الأيديولوجي وبخطاب متعال مفارق لواقع الأفراد ومشاكلهم اليومية. وتعمل على توريط بعضها في الخيانات لتسجيل مواقف ذات أثر سريع (انتخابوي في الغالب وأيديولوجي في الأصل) وتتحرك أغلب الرموز السياسية وعيونها على رئاسيات 2019 كما لو أن المسار مضمون حتى ذلك الحين.

المدهش أن التحليلات المعلنة تنبني على عدم الثقة في المنظومة القديمة ولكن الممارسة الظاهرة تعمل على المشاركة في مسار ثابت ومضمون تقوده المنظومة إلى حتفه. فتكون النتائج مخالفة للمقدمات والنتيجة الأبرز لذلك هي كسر جسور الثقة بين الشارع (الشباب منه خاصة) وبين النخب الحزبية التي تظهر في هذا المشهد قاصرة عن بناء تصور سليم لما سيقع في المستقبل القريب. إن قصورها سبب رئيسي في الدعوات الكثيرة لمقاطعة المسار الانتخابي الذي لا ترى فيه إلا مصالح القصيرة والأنانية لزعامات الأحزاب.

إلى هذا الغباء في بناء الموقف تظهر النخبة السياسية جبنا مدمرا أمام تغول النقابة فهي تجاملها خوفا منها رغم تقديرها(في الكواليس) للضرر الماحق الذي تلحقه النقابة بالمرحلة في الجوانب الاقتصادية والسياسية. فإذا نطق الاتحاد خرست الأحزاب ومشاهد التذلل الخانع أمام قيادة النقابة تتكرر وتتشابه ولم ينج منها أي سياسي يعتقد بنفسه.

قطاع واسع من الناس الآن يعرف أن إضراب التعليم هو إضراب سياسي وسيحل بطريقة سياسية وستقبض النقابة مكاسب سياسية بينما يخسر رجال التعليم سمعتهم وعلاقتهم بأولياء تلاميذ هم أمانات بين أيديهم والأحزاب في كواليسها السرية تحلل أيضا بهذا المنطق فيقولون في الكواليس أن إضراب التعليم يستهدف الحكومة ومطالب رجال التعليم ليست إلا ذريعة. غير أنهم لا يعلنون بل يشاركون في مفاوضات تغيير الحكومة تحت مسميات فرضتها النقابة مثل البحث عن حكومة نجاعة تتجاور أخطاء حكومة الشاهد.

سيشهد هؤلاء تغيير الحكومة (في أفضل الاحتمالات بعد أن تشرف على الانتخابات البلدية وحبذا لو تسقط قبلها فلا تكون انتخابات) وسيرون لوبي الأعمال المنتمي للساحل يسيطر على الحكومة. وسيتحقق أمامهم مطلب يسار النقابة بإضعاف موقع حزب النهضة فيها. وفي الأثناء ستذوب مطالب رجال التعليم فلا يهتم أحد لإصلاح المدرسة العمومية (ذريعة الإضراب السياسي القائم الآن) هنا تتغول النقابة وتنكسر الثقة وتخسر الثورة.

ماينة يا سي الباجي

مَايْنَةْ كلمة يقولها التونسي المنهزم لمن هزمه. وعادة ما تكون إقرارا بأن المنتصر يستحق انتصاره لأنه الأقوى أو الأذكى ويبدو أننا في مرحلة الاعتراف بأن منظومة الرئيس الباجي تنتصر في تفريغ الثورة من كل مضمون تغيير فعلي وفعال. وأن الأمتار الأخيرة التي كتبنا عنها في مقال سابق سيقطعها المنتصر الأزلي ممثل المنظومة ورمزها وعقلها المدبر هل نسلم للمنظومة ونقول نجحت؟ لا داعي للعجلة في كتابة هذه الجملة ولكن سنحمل المسؤوليات.

إن التجربة الحزبية التونسية المعارضة للمنظومة قبل الثورة وبعدها فشلت في تطوير مطالب الثورة إلى مشروع دولة جديدة. كل العاهات التي أعاقت النخبة السياسية ما قبل الثورة عادت للظهور وحكمت على أدعياء الديمقراطية بالفشل فحملوا في سياق فشلهم كل آمال الشباب الذي سار وراءهم في لعبة الانتقال الديمقراطي منذ القصبة 2 إلى هاوية لن استنكف بنعتها بحفرة الخيانة.

وإلى خور التجربة الحزبية عرفنا الجريمة التي ارتكبتها النقابة في حق الثورة منذ حولتها إلى كراسات مطلبية كلما لبي منها مطلب توالدت مطالب أخرى أشد تنكيلا بالبلد.

هذا هو المكسب الوحيد الذي يمكن أن يبنى عليه مستقبل التفكير في تحقيق الحلم الذي تحول الآن إلى تراث جميل مثل ثورة الاستقلال الأولى حين خرج أجدادنا بصدور عارية في مواجهة المحتل ثم اكتشفوا أنهم بيعوا في صفقة وراء البحر جعلت استشهادهم رواية رومنسية غير ذات أثر على حياتهم البائسة.

لقد صارت ثورة التونسيين خلفهم ولقد فرطوا فيها دون أدنى شعور بالألم إلا قلة مقهورة تحت جدار بارد أما المستقبل فسيحدده لص من لصوص المال العام يعرف أن يعقد صفقة مجزية مع السفير الفرنسي.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات