يعيش المشهد السياسي التونسي حالة احتباس يحار اللبيب في توصيفها وتعجز العلوم الإنسانية أن تجد لها توصيفا قابلا للتداول فالجميع متحزب ومسيس وله أفكار جديدة ولكن الفعل السياسي متشابه إلى درجات التطابق وهو في تطابقه جامد لا يتغير كأنه طاحونة ريح تدور في مكانها. ويزيد الأمر سوءا مشهد إعلامي مخترق من لوبيات الفساد تكرر على الناس نفس الجمل المملة والمنفرة بلسان أقرب إلى لغة أهل مالطة من لسان التونسيين الذين يسمعون الإذاعات ويتأففون لأن أغلب الجمل صارت بلغتين وقليلا من يلتقط كل معانيها في هذا الخلط اللغوي الذي يحيل بدوره على خلط حزبي وسياسي يكرس موت السياسة إلا أن يثور الشارع من جديد لإعادة تتريب المشهد بطريقة حاسمة وهذا أمر مرغوب لكنه ليس متاحا بالأماني.
أحاول هنا تتبع بعض تفاصيل المشهد الحزبي في تونس قبل ستة أشهر من الانتخابات البلدية التي من المأمول أن تدخل البلد في مرحلة الحكم المحلي طبقا للباب السابع من دستور 2014
الأحزاب التونسية الكثرة وقلة البركة
شهدت تونس حالة انفجار حزبي بعد الثورة فبعد أن كان النظام السياسي يتشدد في الترخيص للعمل الحزبي القانوني ويبتز السياسيين المعارضين له سهلت الحكومة الانتقالية لسنة 2011 إجراءات تقنين الأحزاب فتأسس أكثر من 120 حزبا في أقل من سنة ولكن الأمر لم يتوقف فقد شهد الأسبوع الأخير من مارس 2017 ميلاد حزب البديل التونسي للمهدي جمعة الذي خرج بدوره من عدم السياسة إلى محاولة التموقع ضمن مشهد سياسي بائس حتى الآن.
تلك الأحزاب ماتت عمليا فلم تخرج من الإضبارات الإدارية المركونة في مقر ولاية تونس. نسي الناس أمرها إلا قليلا منها لا يزال يذكر بنفسه في بيانات باهتة بمناسبات قليلة ولا يسمع بها إلا المؤسسون الذين صاغوها فليس لهذه الأحزاب مقرات ولا نشريات ولا زعامات تعبر عنها.
يعتبر البعض أن الانفجار الحزبي هو ردة فعل طبيعية لحالة الحرية والانعتاق السياسي بفضل الثورة وقد حدثت أمور مماثلة في تجارب انتقال أخرى(إسبانيا بعد فرانكو) وعرفت نفس المصير. وهذا كلام صائب لجهة الدوافع النفسية للأشخاص ولكن هؤلاء الأشخاص الفرحين بالحرية في تونس كشفوا أنهم لا يملكون قدرات حقيقية لتطوير المشهد السياسي ضمن الحرية الوافدة بل كان افتتاح الدكاكين الحزبية نوعا من محاولة الفوز بغنيمة بسيطة قد لا تتجاوز الظهور في بلاتوه إعلامي مرة في السنة. لقد انكشفت هشاشة المسيسين المحسوبين على النخبة وتعرت قدراتهم وهم محل تندر الشارع إذا ذكروا بأسماء أحزابهم.
هناك رغبة جلية في الظهور والزعامة لكن بلا قدرات حقيقية على التأسيس لذلك فرز المشهد بعد ست سنوات من الثورة ولم يبق ظاهرا في المشهد إلا عدد قليل لا يجمع بدوره ربع القاعدة الناخبة البالغة ثمانية ملايين ناخب على الورق طبعا.(شارك أقل من نصف هذا العدد في انتخابات 2014). وربما كان لتعدد الأحزاب أثر كبير في نفور الناس منها لعدم وضوح أفكارها ولعدم معرفة الناس بزعاماتها المؤسسة وهو ما زاد المشهد السياسي التونسي بؤسا.
قانون أكبر البقايا خرّب المشهد السياسي.
وصل كثير من المحللين الذين يراجعون المسار الثوري بغاية تطويره إلى قناعة ثابتة هي أن قانون الانتخابات القائم على إنصاف أكبر البقايا قد خرب المشهد السياسي التونسي بعد الثورة و ركّب نظاما سياسيا فاشلا وعاجزا.
كانت حميّة الثورة قد جعلت الناس يقبلون بتوليف هيئة شبه برلمانية كان بن علي قد وضع على رأسها عياض بن عاشور قبل أن يكمل الشارع ثورته ويهرب بن علي إلى السعودية ولكن رجله المعين على الهيئة لم يهرب بل رحب به بصفته مشرعا قديرا في القانون الدستوري وكانت للرجل خطة واضحة لم تتضح إلا لقلة من الناس لكن أصواتهم كانت خافتة وهم ينبهون لخطر ما كان يجري في آخر 2011 الممهدة لانتخابات أولى بعد الثورة.
كان الرجل محكوما بفكرة واحدة أن يصدر قانونا انتخابيا يمنع حزب النهضة من الفوز بأغلبية ساحقة كانت كل الشواهد في الشارع تنذر بها. فاختار فرض قانون انتخابي يسقط الأحزاب الكبرى ويفسح للقائمات الصغرى بدخول المجلس التأسيسي بعدد أصوات محدود. وفعلا دخل المجلس في أكتوبر أشخاص فازوا بمئات الألاف من الأصوات وجلسوا بجوار أشخاص آخرين فازوا بمئات الأصوات فقط.
ربح بن عاشور وخسر المشهد السياسي. ومن خساراته فضلا عن طمع الأحزاب الصغرى في دخول المجلس فإن أشخاصا كثيرين طمعوا بدورهم فألفوا قائمات انتخابية مستقلة بعضها رقّع قائماته بأسماء ندل المقاهي حيث كتبوا برامجهم الانتخابية.
بعد انتخابات 2011 كان المشهد مليئا بالزعامات والأسماء وخاليا من عمل سياسي منظم في مؤسسات قابلة للبقاء والتأثير. ثم أخد الأمر منحى سلبيا جدا اذا استكبرت هذه الزعامات الفارغة أن تعترف بفشلها فتذرر المشهد السياسي إلى مزق وشظايا وفقدت الحرية فائدتها فدخل الناخبون إلى صندوق الاقتراع سنة 2014 بتراخ يكشف يأسا أكثر مما يكشف أملا في الاستفادة من الديمقراطية لإحداث تغيير حقيقي متدرج نحو بناء مشروع سياسي تونسي جديد. هنا عاد الناس يطرحون أسئلة عن دور قانون أكبر البقايا ونوايا واضعه العبقرية.
ينتهي كثيرون الآن إلى أن المقصود من القانون لم يكن محاصرة حزب النهضة فقد كان هذا ممكنا بغير القانون الانتخابي (جرى في حينها تهويل قدرات حزب النهضة بما سمح بقبول القانون) بل كان المقصود منع الثورة من بناء مشهدها السياسي الجديد والإبقاء على قاعدة النظام السياسي الذي سقط رأسه ولم يتفكك جسمه ولكن هذا التقييم تأخر كثيرا ولذلك يستمر المشهد مليئا بالبثور السياسية المسماة أحزابا وها هي تتناسل من بعضها وتختصم على نفس الكراسي في نفس المكان.
مهدي جمعة آخر القادمين.
قبل 2012 لم يكن أحد يعرف مهدي جمعة إلا أسرته وموظفو شركة توتال الفرنسية فالرجل كان موظفا مغمورا في إحدى فروع الشركة. ولكن احدهم (وهنا السؤال من الفاعل؟) وضعه في طريق حمادي الجبالي رئيس الحكومة فمنحه وزارة تقنية تبين لاحقا أنها ليست كذلك هي وزارة الصناعة لكن ذكره ظل خاملا حتى ظهر فجأة كمقترح لرئيس حكومة وفي خصومة النهضة مع النقابات ورجال الأعمال. مر مهدي جمعة من ثقب صغير ليصير رئيس حكومة طيلة 2014 فجمّع حوله أشخاصا يشبهونه في نقطة محددة هي أنهم أشخاص بلا هوية سياسية وبلا تاريخ وبلا برنامج.
لا شيء في رصيد الرجل غير أنه منتم لمنطقة الساحل لذلك قال المقربون منه أن الدر عاد إلى معدنه كناية عن خروج السلطة من يد رجل جنوبي هو على لعريض النهضاوي وعودته إلى شخص من الساحل.
اختفى مهدي جمعة بعد ذلك ودخل في النسيان وهي نتيجة طبيعية لفقدانه كاريزما سياسية تبقيه في المشهد ليعود سنة 2016 بفكرة تأسيس "ثانك تنك" تحول هذه الأيام إلى حزب سياسي سماه البديل التونسي. وكان أول ظهور إعلامي كزعيم حزب باهت وبارد فالرجل ابعد ما يكون عن الخطابة المؤثرة وأبعد ما يكون عن مؤهلات القيادة السياسية.
يبدو المرور من مكتب دراسات وتفكير إلى حزب خطوة جديدة في مشهد لا يفكر ولكن إلى مدى يكون إخراج التصورات النظرية من حاسوب إلى الواقع ممكنا؟
فكرة مراكز التفكير مستجدة في تونس ولكنها كشفت حتى الآن أنها شغل نخب على حواسيب تعتمد معارف نظرية فالواقع المحلي أشد تعقيدا من العمل على الحاسوب في مكتب مكيف. وحزب البديل التونسي كما يظهر الآن يدخل تونس إلى الحاسوب ولا يخرج من الحاسوب إلى الشارع. بما يجعل التصورات مغرورة وتستسهل بناء التخيلات. ويعد أصحابها لصدمة الحياة الواقعية ونعتقد أن حزب البديل ينتظر في غرفة نوم مؤسسه قبل أن يعشي عينه ضوء الحقيقة المرة أن البلد لا يسيّر بحاسوب متطور. بل برجال ميدان يعرفون التواصل مع الناس وقراءة بدائلهم المقترحة فالشارع يعرف ما يريد وهو مختلف عن تنظيرات التكنقراط في المعازل التقنية المحوسبة. لذلك نميل إلى الاعتقاد أن مثل مهدي جمعة وياسين إبراهيم (حزب آفاق) وهي تجربة سياسية سابقة لمهدي جمعة ولكن بينهما تطابق غريب وستشغلان بنفس البروفيلات النخبوية ذات الخبرات الأجنبية والفرنسية بالتحديد.
لن أقع هنا في الترويج لحديث النوايا والارتباطات الخارجية المتعلقة بتأسيس بعض الأحزاب التي قيل أنها تمول من الخارج وأنها أحزاب مخابرات أجنبية تضخ لها المال دول تريد التدخل بواسطتها في المشهد الداخلي التونسي وتوجهه لصالحها. مثل المخابرات الإماراتية وحليفتها الفرنسية التي تسمن حزب المشروع وحزب مهدي جمعة (البديل) فهذا حديث سهل لكني لا أملك عليه أدلة مادية.
بثرة أخرى إذن في وجه مشهد سياسي جامد ما من حركة حقيقية ولكن دوران في نفس المكان بنفس الأشخاص ولنفس الغايات. السلطة والتغيير الفوقي البعض يفكر بحاسوبه والبعض بعلاقاته الخارجية وتحالفاته مع رجال الأعمال الفاسدين في الداخل ولكن لا أحد يقترب من الشارع ومطالبه والتفكير معه لا التفكير له. لذلك فالشراع لن يستشير هذه الأحزاب إذا قرر وعزم كما فعل ذات 17 ديسمبر 2010.