مواصلة للنقاش مع الصديق مصطفى العلوي حول العلاقة بين الإسلاميين واليسار

Photo

تحمس صديقي مصطفى العلوي وزميل دراستي في قسم علم الاجتماع ( 84-88) للرد على مقال نشرته بموقع الجزيرة مباشر ولاحقا بموقع الزراع (تونس) يتعلق بالفرص المهدرة بين الإسلاميين واليسار إذ يتنافران إلى الحرب. وقد رأى في ما نشرت حيفا بحق اليسار ولكني اعتقد ان رده كان متحيزا عن المعنى الأصلي للمقال وهدفه. كما دفعه حماسه للنقابة إلى تصنيفي سياسيا ومن ثم محاسبتي على ممارسات الحزب الذي يعتقدني انتمي إليه. ولكن لان رده اتصف بنبل العبارة وحسن المجادلة فان عدم مواصلة النقاش تصير من سوء الرد وهذا رد أول في انتظار رد على الرد.. ثم رد على الرد الذي …

لم يكن مقالي دفاعا عن النهضة ولا لعنا لليسار فأنا واثق من موقعي خارج التيارين فكريا وسياسيا. واذا كان لي من محرك عاطفي يفسد حيادي الفكري فهو الحلم بإمكان اللقاء السياسي بين هذه التيارات جميعها بما فيها القوميين بكل مشاربهم والتي تناحرت طويلا و لم تجن من ذلك الا خرابها وفشلها وانتصار اعدائها عليها. انا اؤمن بفكرة النهر والروافد حيث هناك تيار واسع يتزود من روافده. والتيار الكبير أو النهر هو كتلة الوسط الاجتماعي والروافد هي هذه الافكار الجزئية والحزبية يمينا ويسارا التي تنتهي في النهر الكبير فتجدد ماءه و تدفعه في مصبه التاريخي. نهر غير ايديولوجي يفكر في الاجتماعي و لا يخوض حروب الهويات الثقافية بل يؤسس لثقافة جديدة.

انطلقت من حالة الدكتور بن جعفر لانتهى عند الوف بالم. وجنازة جورج مارشي .

ورأيت في ذلك المثال المختصر للعلاقة الانتهازية مع تيارات الإسلام السياسي في ما نطق به بن جعفر بعد ان يئس من امكان الاستفادة مرة أخرى من النهضة. وذكّرت بحالات سابقة كانت فيها شخصيات علمانية وقومية وليبرالية تستفيد من القوة الانتخابية للإسلاميين ثم لما آن أوان التحالفات الدائمة ضد النظام القديم في تونس ومصر نكص هؤلاء على اعقابهم وتخلوا عن احتمالات التحالف المنتج مع الإسلاميين ودفع التعاون السياسي إلى تغيير الواقع . وامامي يمثل دائما حمدين صباحي المصري ونجيب الشابي التونسي وهذا اقنعني بان العلاقة مع الإسلاميين ليست مبدئية بل هي انتهازية صرفة من أجل الاستفادة من الجمهور الانتخابي المنضبط للأحزاب الإسلامية فقط فاذا صوّت هذا الجمهور لمصلحته تخلى هؤلاء عنه ولعنوه.

قناعتي ان العلاقة الانتهازية مع الإسلاميين لا تبني تحالفات دائمة. بل تدفع الإسلاميين إلى الدفاع عن انفسهم إذ يقرؤون كل علاقة انتهازية بمثابة اقصاء ناعم. لا يختلف في شيء عن السجون و المنافي. وهم بها خبراء.

يقول الصديق مصطفى اني اعمم على اليسار فاليسار ليس واحدا وبن جعفر ليس يسارا بل ديمقراطي اشتراكي وهذ صحيح اذا امسكنا مسطرة القياس الافقي للمواقع. فالتفاصيل مهمة لكن موقف اليسار الصافي في يساريته يتخذ موقفا اشد تطرفا من احتمالات التحالف أو على الاقل عدم الاعتداء . وهذا التنافر ليس ناجما عن الاغتيالات السياسية التي حدثت زمن حكم الإسلاميين بل هو تاريخي (وقد كنت شاهدا عليه في الجامعة).فهناك رفض مبدئي بناء على قراءة نظرية للتناقضات ولاحتمالات التحالف . فالتناقض الرئيسي الذي يقود فكر اليسار (الذي يعتبره مصطفي يسارا) هو التناقض مع الإسلاميين (الطرح الثقافي الرجعي (الدين أفيون) والولاء غير الوطني فالإسلاميون صناعة غربية مخابراتية منذ ميلادهم ولن يفكوا الارتباط مع الغرب الامبريالي وهنا يوجد لقاء كبير مع التيارات القومية العربية).

وهذا التناقض لا يمكن تجاوزه في حين يمكن تجاوز التناقض الفرعي مع الأحزاب الحاكمة (الأنظمة) ذات التوجه الرأسمالي التابع فهي انظمة ليست رجعية الطرح وان كانت عميلة للإمبريالية وقد انجزت كثيرا من الحداثة المرغوبة يساريا خاصة في مسألة تحرير المرأة وتغيير منوال التفكير الديني.

لم يراجع اليسار التونسي هذه المسلمات منذ ظهر الإسلاميون بجانبه في الجامعة ولا يبدو في وارد مراجعتها وقد حكمت موقفه منذ الثورة وحتى تحالف انتخابات 2014. الذي نرى نتائجه هذه الأيام وهي ليست نتائج مبشرة بمستقبل سياسي كبير لا لليسار ولا للبلد . ولا اعتقد ان هناك من داخل اليسار (خاصة الجبهوي منه) من يطرح سؤالا تقييما عن الجهد المبذول في هذا الصراع و عن الطاقات المهدرة وعن الاحتمالات المخسورة...

كان هناك استثناء وحيد هو التقاء حمة الهمامي (حزب العمال) مع اسلاميين في 18 أكتوبر وقد حضرت شهادة الهمامي امام مركز التميمي وقال بالحرف ان الفقرة المتعلقة بقضية المرأة في كراسات 18 أكتوبر كتبها على لعريض بيده بعد ان افتك القلم من حمة (الكلام موثق) كانت تلك اشارة مهمة لإمكان لقاء فكري ولاحقا سياسي لكي يؤسس عمل مشترك طويل النفس. هذا الاستثناء تابعنا ما بعده من هرسلة تعرض لها حزب العمال ليتراجع عن كل لقاء وكان المهرسلون الأول هم الاوطاد وحركة التجديد (المسار حاليا).

لماذا تفشل كل محاولات اللقاء والحوار؟ اعتقد أن إجابة ضافية مطلوبة من الصديق مصطفى وان كنت اعرف انه خارج هذه التنظيمات ولا ينطق باسمها ولكن قلبه يعطف عليها.
والحقيقة ان جوهر سؤالي في المقال الأول والذي اجتنب الصديق مصطفى الرد عليه صراحة هو من يرفض مد يديه للآخر ؟ تتراكم عندي شواهد كثيرة عن اسلاميين يقتربون ويسار يتهرب ويرفض. واعتقد ان قد استثمار الاغتيال السياسي الأول والثاني لمزيد تعميق القطيعة لا لفهم الوقائع و التناصر على كشف ملابساتها.

الجميع يعرف الخسارة الفادحة التي اصابت حزب الإسلاميين (النهضة) جراء الاغتيالات واعتقد انها خسارة غير قابلة للجبر وسيعانون نتائجها ابد الدهر. ولكني وبالنظر إلى وقائع الاستغلال السياسي للاغتيال اجزم ان اهل الدم غير راغبين في كشف الحقيقة لان غموضها له مردود سياسي كبير يبدا من الاصرار على توريط الإسلاميين في جريمة هم أكبر الخاسرين منها. فدم شكري هو قميص عثمان الجديد. وهو دم تأبيد القطيعة.

هنا وددت لرد الصديق مصطفي ان ينصرف معي حيث صرفت القول اي البحث في سبب هذا العداء وقياس تأثيره على مستقبل بلداننا العربية وتونس في قلبها . وعن فتح النقاش حول امل اللقاء وتجاوز الخلافات أو على الاقل فهمها وتفسيرها.. ولكنه لم يفعل .. ومازال النقاش مفتوحا …
أنا اقف خارج خطاب التخوين ولا امنح شهائد في الوطنية لذلك انطلق من قناعة ان هذه التيارات لديها شاغل تطوير بلدانها وبناء ديمقراطيتها واعتبرت ولا ازال ان القطيعة بين اليسار (بما في ذلك القوميين) والاسلاميين تخرب هذا الاحتمال وتدمر المستقبل وقد راينا نتيجة التحالف ضد الإسلاميين في تونس و في مصر لقد عاد النظام القديم بكل ادواته. ولم يربح المتحالفون معه الا المهانة.
في السنوات الخمس الاخيرة اضطربت مواقف اليسار وتحالفاته بشكل غريب وكان الثابت الوحيد فيها ان كل عدو للإسلاميين يصير آليا حليفا لليسار (بما في ذلك ممالك النفط) يمدون له اليد ويبررون فعله مادام يصيب الإسلاميين في مقتل ..(اعرف ان صديقي يقف موقفا متقدما جدا من انقلاب السيسي ويتعرض للهرسلة بسبب ذلك من اليسار التونسي).

هل كان يجب ان لا يكون هناك اسلاميون في الصورة لكي لا يتحالف اليسار مع النظام القديم توقيا من انهيار مشروع الحداثة ؟ الإسلاميون هنا ودائما ولن يندثروا ... لكن نعرف انهم غيبوا عن تونس دهرا كافيا لتغيير مسار البلد فماذا انجز اليسار في غيابهم هل انجز الديمقراطية؟ هل كرس الحريات العامة والخاصة؟ هل فرض التنمية الاجتماعية على نظام تابع فيه كل مواصفات الكمبرادور؟).(مصطفى يعرف النتائج).

ولقد استغرب الصديق مصطفى أن انصح للإسلاميين ان ينحازوا إلى أحزاب الوسط الاجتماعي (الديمقراطية الاجتماعية) فكأن هذا الموقع مملوك لغيرهم أو كأن قدر الإسلامي أن يكون يمينيا محافظا فقط لأنه متدين نسجا اجباريا (قدر مقدور) على منوال الديمقراطيات المسيحية (بما يكشف موقفا وثوقيا كلاسيكيا عند الصديق من كل مسار الظاهرة الدينية ونتائجها فكل متدين يجب ان يكون على اليمين ليفسح المجال لليسار).

لم يخرج صديقي من توصيف ماركسي للدين والتدين يوحد مصدره ومآله . ومراجعاته العميقة للموقف السياسي اليساري في تونس لم تصل بعد إلى نقد العمق الايديولوجي الذي قامت عليه.

وانا ارى ان الوسط فارغ وهو موقع مفتوح بعد وأرى انه الموقع الوحيد الممكن للتيارات الاجتماعية الصاعدة من اوساط الفقر والفاقة والتي لا خيار لها الا الدفاع عن الدولة الاجتماعية .

لقد نصحت لأصدقاء كثير بهذا التوجه وعملت مع حزب الارادة على أن يكون في هذا الموقع الوسطي (قبل ان اعتذر عن دخول الهيئات القيادة للحزب). واعتقد فوق ذلك ان هذا التوجه الوسطي غير الأيديولوجي كفيل بان يفتح ابواب عمل سياسي مشترك بين تيارات كثيرة. وهو كفيل بتذويب خلافات موهومة وبعضها قد يكون مدفوع الاجر لتعميق صعوبات بناء الديمقراطية في تونس .

وعندما قلت في اخر مقالي ان النهضة تحتاج إلى أولوف بالم لتسير في جنازة جورح ماشي (وهي الجملة التي اغضبت صديقي مصطفى و اخرجت نقاشنا من الخاص إلى العام) فانا اعني بكل وضوح ان بالم هو رمز الديمقراطية الاجتماعية التي خلقت الجنان الاجتماعية (الاسكندنافية) و اجهزت على اكاذيب الستالينية (خاصة في صيغتها البريجنافية) الواعدة بالعدالة والتي لم تكن في حقيقتها الا موزعة للفقر والقهر في قلب تجربتها في حين تتظاهر بمساندة حركات التحرر في العالم دون ان ننسى انها أول من اعترف بوجود الكيان الصهيوني . ومثل بالم يمكن ان ننظر إلى ميتران الفرنسي الذي اخرج اليسار الفرنسي من التكلس الفكري والسياسي الذي فرضه الحزب الشيوعي الفرنسي السائر في خط ستاليني فقير .
ان الجنازة التي اعني هي جنازة الستالينية التونسية التي ستذوي امام مشروع دولة اجتماعية تضع منوال تنمية يكرس العدالة و يقضي على الحيف ولا يتخلى عن الفقراء . وينجزه التونسيون معا (يسارا واسلاميين)

واذا كان صديقي يكتم حنينه للستالينية فاعتقد ان منطلقات نقاشنا مغشوشة . ويجب أن نستأنف من نقطة أخرى اذا بقيت لديه رغبة في النقاش ..

طرح الصديق مصطفى سؤالا عن العجز الثقافي للإسلاميين واعتقد اني قدر رددت عليه في مقال منفصل نشر بموقع الزراع ..

كما غضب كثيرا لموقفي من اتحاد الشغل إذ كتبت انه سرطان في الجسم التونسي وقد كتبت سابقا في هذا الامر و سأفرد هذه النقطة برد خاص .

أما التلميح بان الكتابة في مواقع عربية هو ارتزاق نفطي وهو خسارة لصحافة البلد فهذه سقطة في الحوار تتجاهل الاسباب. يمكن مقارنتها (بغض النظر عن الاسباب الكامنة) من حيث الخسران ..بان زواج رجل تونسي بأجنبية هو خسارة لنساء الوطن.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات