لا نحتاج هنا إلى استعادة النظريات الكبرى أو النظريات البرغماتية حول الدولة وتكوينها وأدوارها فالأمر أبسط من درس فلسفي. ولا يهم الآن إن كان هناك في كليات الدولة نفسها من يدرس هيجل ونظريته في الدولة فنحن تقريبا في منطق غول توماس هوبز. الغول يكشر عن أنيابه ويستعد لافتراس المجتمع. درس أو تمرين مدرسي مناسب جدا في دروس علم الاجتماع السياسي ولن نألوا جهدا في تفسيره لطلبتنا. ولكن نحن وطلبتنا ملزمون لاحقا بأداء التحية لعون شرطة لم يكمل دراسته بين أيدينا لأنه لم يكن بالمستوى المطلوب لينجح وسنقدم له طقوس الولاء والطاعة في الشارع لأنه مسلح بسلاح ناري ومسلح بأخطر من ذلك قانون زجر الاعتداء على الأمنيين.
الأجهزة المتنمرة على الدولة والمجتمع.
لعل من أسوء نتائج الثورة التونسية أن الصراع السياسي القائم بين الفرقاء من الأحزاب والنخب خضع لابتزاز القطاعات المهنية التي تنظمت نقابيا وفي إطار التكايد السياسي كان الفرقاء السياسيون يوالون نقابات مهنية ذات ثقل في الشارع لإحباط ما يقوم به خصومهم وقد شهد هذا الأمر قمته زمن حكم الترويكا (2012-2014) فانطلقت في تونس عملية ابتزاز الدولة عبر الضغط النقابي. فرفض الأطباء كل مساس بمداخيلهم بعنوان المساواة الضريبية وفعل مثلهم المحامون والمهندسون ولكل نقابته القوية الفاعلة وإلى حد الآن لم تعرف تونس مساواة ضريبية عادلة بين الموظف والعامل لحسابه من أصحاب المهن الحرة. فالثقل الضريبي الأكبر يقع على الموظف الذي يخضع للاقتطاع من المصدر. بينما يخضع صاحب المهنة الحرة لتقدير جزافي للدخل يقل بكثير عن دخله الحقيقي.
المعركة مستمرة بين الدولة والأجهزة النقابية
تنمر الأجهزة بواسطة المنظمات النقابية يتواصل هذه الأيام ويبلغ مداه بطلب نقابات الأمنيين فرض قانون زجر الاعتداءات على الأمنيين. لقد أفلح الأمنيون بمختلف الأسلاك النشيطة في تكوين نقابات مهنية وكان ذلك ضمن صراع عناصر النظام القديم والأحزاب التي فرضت لها الدولة حقا في العمل السياسي وخاصة حزب النهضة عصب حكومة الترويكا. كان الباجي رئيس الحكومة المؤقت يخطط ضمن فريقه غير المكشوف(سينكشف لاحقا في عملية تأسيس حزب النداء) لتعطيل حزب النهضة الذي كان في طريق مفتوحة للفوز في انتخابات 2011 ولم يكن قانون بن عاشور الانتخابي كافيا لتعطيله فوافق الباجي بصفته رئيس الحكومة على منح الأمنيين حق التنظم النقابي فسارعوا إلى ذلك و همدوا حتى خرج من السلطة ثم انطلقوا في ابتزاز الحكومات المتتالية لكن قمة احتجاجهم كانت باقتحام قصر الرئاسة على الرئيس ورفعهم شعرا ارحل في وجه رئيس الحكومة الذي لم يجد من يحميه منهم (وكيف له وهم قانونيا حماة الحكومة من العامة) سحر انقلب على ساحر؟
الأمر أعمق من ذلك بكثير أجهزة مهنية متنمرة تحصل على مكاسب من هشاشة الدولة ومن هشاشة الحكومة وضعف أدائها وفقدانها للإيمان بفكرة الدولة نفسها فقد خضع الرئيس وخضع رئيس الحكومة للنقابات ومنحوهم زيادات في <مداخيلهم لم يحصل عليها أي قطاع مهني يماثلهم في الوظيفة العمومية وهم يمرون الآن إلى السرعة القصوى.
لقد حصلوا على حق حمل السلاح خارج الخدمة. وصار بإمكان أي عون أن يحمل مسدسه إلى بيته أو إلى مجلسه بالمقهى حيث يشرب قهوته مع الأصدقاء ويضع المسدس على الطاولة. ومنذ يومين كان أحد الأعوان يلعب بسلاحه فأردى صديقه قتيلا بمنطقة نابل. ولم يكتفوا لقد تقدمت النقابات بمشروع قانون يجرم الاعتداء على الأمنيين عرف حتى الآن بقانون الزجر. وفحواه مجملة حماية الأمني أثناء القيام بعمله.
في ظاهر الأمر يبدو العنوان مقبولا لكن الشيطان الكامن في التفاصيل يكشف أن الأمني يريد أن يكون فوق القانون. وأن يكون غير خاضع لأية مساءلة عما يفعل بسلاحه فكل ما يأتيه مشروع إذ يحتمي بنص يؤول على صيغة واحدة بما أن عون الأمن محلف (أقسم على المصحف على خدمة الوطن) فإن كل ما يأتيه قانوني ومحل ثقة والمواطن هو المخطئ من حيث المبدأ.
لا يتسع المقال لمناقشة فصول مشروع القانون وقد نعود له في مقال لاحق ولكن البيان الذي أصدرته النقابات الأمنية مجتمعة بعد اعتداء إجرامي على عون أمن بوساطة طعن بسكين أدى إلى استشهاده كشف أن الأمنيين يتصرفون كدولة داخل الدولة وليس جهازا من أجهزتها الخاضعة للقانون. لقد أعلنوا مواعيد دقيقة للحكومة وللبرلمان للمصادقة على القانون دون مناقشته. وأعلنوا رفع الحماية الأمنية (دون الرجوع إلى القانون المنظم لمهنتهم حتى الآن) عن النواب بما بث حالة من الرعب العامة جعلت رئيس الدولة ينحني بسرعة لعاصفتهم فطلب من البرلمان تأجيل كل نقاش ووضع قانون الزجر على جدول أعماله والمصادقة عليه وبما أن حزب الرئيس يتمتع بالأغلبية البرلمانية بعد فإن بقية الأحزاب وخاصة حزب النهضة وجدت نفسها في زاوية ضيقة المصادقة على القانون أو الظهور بمظهر المتحدي لنقابات الأمن وهو وضع مخيف خاصة لمن ما يزال يحمل سياط الأمنيين إياهم على جلده.
النقابات تنهي التعاقد حول الدولة
حالة تونسية مثالية لدراسة تغول القطاعات المهنية على الدولة. نحن بعيدون هنا عن حالة الليبرالية التي قدمها في أجلى صورها ألكسيس دي توكفيل عن نشأة التجربة الديمقراطية الأمريكية فهناك كان التعاقد الديمقراطي ضمن العمل الليبرالي سيد البناء المؤسساتي الذي انتج دولة قوية وقادرة على التحول من وضع الجاليات المهاجرة إلى دولة تعاقدية قوية وفعالة لكن الحالة في تونس تشبه تغول قطاع الطرق كل بشارعه (نوع من ملحمة الحرافيش التي وصفها نجيب محفوظ في روايته المشهورة عن عصابات القاهرة القديمة قبل المدنية).
نوع من استقلال أسود الزبد بشارع بغداد زمن انهيار الدولة العباسية قبل هجوم المغول وإعلانه الإمارة لنفسه وهو السوقة الذي نبع من لا مكان ليستقل بجباية الإتاوات لحسابه الخاص.
النقابات التونسية وبقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل تحولت إلى أسود الزبد التونسي الذي يستقل بقطاعه ويفرض على الدولة قانونه الخاص وما على الدولة إلا أن تخضع ولا تجادل باسم شرعية الدولة .
انتهى هيجل في تونس وسقطت أفكاره حول الدولة التي يدرسها زملاؤنا في أقسام الفلسفة بالجامعة التونسية إذ يخرجون طلبة يؤمنون بهيجل فيصطدمون بنقابة تفرض قانونها الفئوي على الدولة ويرتعش رجل الدولة بدأ من الرئيس إلى النائب البرلمان. الكل يخشى النقابة والكل يخضع والكل يمرر القوانين إيثارا للسلامة .
ماذا بقي للبرلمان من سلطة فعلية ورمزية كحام للشعب ومشرع لعلاقاته؟ وماذا بقي للحكومة كخادمة لعموم الشعب؟ وماذا بقي للزعماء السياسيين؟ نحن الآن في قبصة نقابات شرسة وآخر أسودها نقابات الأمن. لنودع الدولة إذن ولنقل معا مرحى بغول هوبز سنضيف بهارات الذل على أجسادنا الغضة فسكين النقابات حاد وشوكتها مسننة ولحمنا الألذ.
الطريف في الأمر أن كل هذه النقابات تعلن مرجعتيها البورقيبية التي بنت الدولة فوق الفئات وفوق الشرائع والقطاعات المهنية. لقد دخلنا مرحلة البكاء على زوج أمنا الأول لقد كان يضربنا ويسمح لنا بالبكاء أما النقابات فتعتبر بكاءنا من خوف ومن رعب يدخل في خانة الاعتداء على الأمنيين.