الصفقة التونسية

Photo

هل نعلن نهاية الثورة التونسية في عيد العمال؟ يبدو أن هناك صفقة تعقد فوق الطاولة وتحتها بين القوتين السياسيتين الأثقل وزنا في تونس النهضة كقوة قادمة من بعيد والدساترة كقوة عائدة من بعيد. صفقة ستعيد إنتاج النظام الليبرالي المغشوش الذي ساد طويلا ولم ينتج تقدما ولا تنمية. وتجعل أحلام الثورة الاجتماعية وراء التونسيين الحالمين بالعدالة والمساواة.

كيف يمكننا في أفق إعادة الشيء المعتاد توليد حالة من الاستبشار بالمستقبل في ظل تحالف قوتين محافظتين لا يمكن تصنيفهما إلا على يمين الثورة الاجتماعية؟ أحاول هنا استقراء اللقاءات التي تجري بين قيادة حركة النهضة وبعض الوجوه التجمعية التي تعاود الظهور بعد انحناءة ذليلة لعاصفة الثورة التي قطفت رأس النظام وتوقفت دون قلع جذوره. لكن على القارئ أن يعذر عدم اطلاعي على المعلومات التفصيلية لما يجري فالمطبخ السياسي مغلق على أصحابه إلا من روائح طيارة .

التجمعيون أو الدساترة؟

بدأنا نسمع خلطا متعمدا بين التجمعيين والدساترة فالأمين العام السابق للتجمع قابل الشيخ الغنوشي بصفته مناضلا دستوريا وكمال مرجان وزير بن علي التجمعي صار زعيم حزب دستوري (المبادرة) بعد أن ترسخ تحالف قوي بين زعيم النهضة ورئيس الجمهورية القادم بدوره من رحم النظام السابق. ولغير التونسيين نوضّح أن الدساترة هم حزب بورقيبة (الحزب الاشتراكي الدستوري) ما قبل بن علي وقد حولهم بن علي إلى حزب جديد اسمه (التجمع الدستوري الديمقراطي) وحكم به 23 سنة فلما سقط حتف أنوفهم أعادوا اكتشاف أصلهم الدستوري وأعادوا تنصيب تماثيل بورقيبة في محاولة لفسخ حقبة بن علي من بطاقات سوابقهم السياسية. وبالوجه الدستوري يعودون إلى الساحة ويعقدون صفقات إنقاذ حيواتهم السياسية وخاصة إنقاذ ثرواتهم وموقعهم الاجتماعية التي حصلوها في حقبتهم التجمعية.

هذا الخلط المتعمد هو المغالطة المركزية التي يقوم عليها عملهم السياسي الجديد الذي يريدون تمريره على التونسيين بمساعدة النهضة. لكنه يشير إلى أمر مهم يجعل النهضة ضحيتهم القديمة تمد لهم اليد وتناقش معهم خطط المستقبل. الدساترة يوهموننا بعودة سياسية مسالمة دون اليسار الثقافي الذي كان الرأس المفكرة للتجمع والتي استعملت الحزب وأجهزة الدولة لتصفية الخصم السياسي النهضة. لقد حاولوا مرة أولى بإنشاء حزب النداء ردا على خسارتهم الفادحة في انتخابات 2011 لكن حزب النداء أعاد التأليف والعمل بقوة اليسار القديم وخاصة ما نصطلح عليه في المغرب العربي عامة بحزب فرنسا. وقد دفعت هذه القوة اليسارية الكامنة والتي تعيش في الهامش الفرانكفوني للجامعة الفرنسية إلى إعادة الاستقطاب ضد الإسلاميين وإثارة معارك الهوية وهي ليست معركة الدساترة المحافظين فيما يزعمون. لذلك نستشعر أنهم بإحياء دستوريتهم يرغبون في التنصل من تحالفهم التاريخي مع اليسار الثقافي (الفرنسي) ويعتزمون التقدم نحو النهضة مشهرين هذه المراجعة كضمانة تحالف جديد مع قوة جديدة تضع على رأس أولوياتها إنقاذ أولادها من محارق اليسار. إنهم يأتون النهضة من أسفل ليشعروها بتفوق يوهمها بالتحكم في المشهد بحذافيره.

هل الدساترة في وضع التزلف الذليل أمام النهضة فعليا؟

يقدم حزب النهضة صور رئيسه وقد صار مكتبه محجَّا للدساترة. ويشعر جمهوره الخاص بأنه من يرتب المشهد العام ويضع الدساترة مواضعهم الجديدة بعد أن فقدوا قدرتهم على التحشيد والتكتل. وهذه الصور تخفي مغالطة كبيرة أخرى. إن قوة الدساترة لم تكن يوما في زعاماتهم فقد محق بورقيبة شخصية المنتمين لحزبه وأجهز بن علي على كل احتمال زعامة في التجمع فلم يبق به إلا الذليل المنكسر الذي يتقن الزحف على بطنه لينال مبتغاه. هذا الفرد الذليل طوَّر قدرات النفاق ليبقى في وضع الاسترزاق وهو يتقدم الآن نحو النهضة بهذه الروح ويخفي قدراته الحقيقة.

إن الدستوري (التجمعي) هو شبكة منافع منتشرة بقوة ومتماسكة في طول البلاد وعرضها تشتغل دوما كماكينة انتخاب تحت الطلب وماكينة توزيع منافع خارج القانون غالبا بدءا من شبكة توزيع الأعلاف على الفلاحين إلى السيطرة على المواني والمطارات.

يعرف الريفيون خاصة أن رئيس الشعبة القديمة مازال يحتفظ بنفوذه كاملا ويسيِّر الحي أو القرية بشبكته من مقهى شعبي ولا يحتاج حتى إلى مقر حزبي ليعلن هويته الحزبية. والفقراء الذين ضُرِبوا بالذّل والمسكنة (تحت عصا التجمع وحزب الدستور) لا يزالون يعودون إليه لتدبر حلول لمشاكلهم صغيرها وكبيرها. هناك تكمن قوة التجمعي/الدستوري الذي يتودد للغنوشي(وينافقه) ومن هناك سيستعيد الدساترة قوتهم وموقعهم بعد أن يحيدوا مؤقتا غضب النهضويين وآلامهم ويورطونهم في تسامح بلا عدالة.

دفتر عناوين الغرياني(الأمين العام السابق للتجمع الذي صار مناضلا دستوريا قديما) لا يزال في جيبه ويكفيه هاتف 3310 القديم ليعلن النفير الانتخابي ويستعيد مواقعه كاملة. وفي معركة العدد (الكم الانتخابي) النهضة تأتي حزبا ثانيا ولو حشدت باسم الله فما بالك وهي تتخلى عن ذلك معلنة مدنيتها.

هل النهضويون طيبون أم أغبياء؟

اعتمد حزب النهضة آلية عمل سياسي من موقع المظلومية. فهم دوما ضحايا يبحثون عن مكان تحت الشمس بالقانون. وقد زادوا إلى مظلومية السجون والمنافي مظلومية إسقاط حكومتهم بعد أن مال إليهم الصندوق الانتخابي في 2011. وهم يروِّجون الآن لتحالف طويل الأمد مع الدساترة تحت ذريعة أن هؤلاء لم يعملوا على استئصالهم ولكنهم كانوا بدورهم ضحية للشق اليساري الاستئصالي في التجمع.إنهم ينافسونها في المظلومية واضعين الشّر كله في رقبة اليسار.

في هذه الحالة يجب علينا أن نتظاهر بالغفلة لنقبل أن مجازر الإسلاميين أنجزها اليسار وحده من داخل التجمع ومن داخل أجهزة الدولة وأن التجمعيين (الدساترة) كانوا أبرياء. ربما يرغب أولاد النهضة في تناسي مآسيهم الخاصة والتجاوز نحو المشاركة ولو بموقع ثان. لكن لا يمكن للملاحظ أن ينسى أن أي رئيس شعبة تجمعية في أقاصي الريف كان قادرا بفعل قوة حزبه أن يدخل أسرا بكاملها للسجون دون أن يتلقي درسا يساريا في الحداثة أو اللائكية.

أطروحة حصر الاستئصال في اليسار التجمعي ليست حقيقية. بل هي أقرب إلى المبرر الإيديولوجي للتحالف الجديد. ولكن من حسن حظ النهضاوي الذي يروج لهذا التحالف أنه في الوقت الذي يتنصل الدستوري من تاريخه الاستئصالي يصرُّ اليساري على تقديم أدلة إضافية على رفضه التعايش مع الإسلامي عامة ومع النهضاوي خاصة. بما يصب الماء في طاحونة التجمعي العائد زاحفا ببراءة ذئبية. وإذا أفرطنا في التأويل فإننا يمكن أن نرى تقسيم الأدوار القديم بين اليسار والدستوريين لا يزال قائما. على اليسار أن يخيف النهضة لتفتح باب العودة إلى التجمعيين لتجد النهضة نفسها ثانية بين فكي الكماشة الاستئصالية. هل هو الغباء الاستراتيجي أم التعامل المتدرج مع معطيات اللحظة السياسية؟

اختلاف الأهداف يفسر التمشي السائد.

من الواضح أن ليس هناك اتفاق بين النهضة وقطاع واسع من الشارع يعلن الإيمان بالثورة والتغيير. لذلك يبدو لنا أن النهضة قد رسمت أهدافها الخاصة وفي مقدمتها البقاء على قيد الحياة السياسية والعمل طبقا لخطة طويلة النفس تستبعد فيها الأعداء قبل أن تستقطب الأصدقاء. ويبدو أن تجربة الحكم زمن الترويكا قد منحتها آلية قراءة وتصنيف لخصومها وأعدائها وهي ترسم خطة تحالفاتها بحسب درجة الخطر عليها. لذلك نجدها ترد الآن على من يتهمها بخذلان الثورة والتحالف مع النظام القديم بوسيلتين:

• أولا عرض مشاهد اعتصام الرحيل الذي وضع فيه اليسار بكل فصائله يده في يد التجمعي بهدف إسقاط حكومتها. ويزيد موقفها متانة أن من سبقها إلى التحالف مع التجمع يصر بعد على عدم تقديم نقد ذاتي لتكتيكاته وهو أمر يريحها في تحالفها الجديد.

• ثانيا: تحدي المزايدين عليها من غير اليسار بملء الشارع حول قضية من قضاياهم. فقد عجز الجميع عن التحشيد بدون النهضة فهي الحزب الوحيد الذي يمكنه ان ينزل الآلاف إلى الشارع برسالة "sms".

ما هو الهدف من الصفقة؟

في الأفق القريب: تعديل الحكومة بتوسيع مكانة النهضة بحسب حجمها الانتخابي. ولكن القوتان تفكران في الانتخابات البلدية القادمة وترسيخ آليات الحكم المحلي(الباب السابع من الدستور) على هواهما ثم مؤتمر النقابة في نهاية السّنة لإخراج اليسار النقابي من النقابة. وهذا هدف نعتقد أنه مركزي للصفقة فالتجمعي صاحب المؤسسة الاقتصادية متضرر من النقابة والنهضاوي الذي اسقط اليسار حكومته بواسطة النقابة يعرف أن اليساري بدون النقابة لا يقف على قدميه.

ولذلك نعتقد أن لن يخرج من هذه الصفقة/ التحالف المحافظ (اليميني) مشروعا اجتماعيا ينصف الفقراء بشرا ومناطق بل سيكون مشروعا يقوم على منوال تنمية تابع أي نفس المنوال التجمعي الذي أنتج الكارثة وهنا لا يهم أن يكون الحزب أولا أو ثانيا. فعدد الوزراء في الحكومة لا يعبر عن قوة حقيقية في الشارع. لذلك نقدم صورة أخيرة حزينة.

سنشهد في قادم الأيام رئيس الشعبة التجمعي المحترف في المكيدة والمكر يجالس مدير المكتب المحلي لحزب النهضة المستجد في معرفة أحوال الدولة في قرية ريفية ويتحدثان عن الطقس. لكن عندما يأتي مواطن مسحوق لتدبر منحة دراسية لولده أو لتدبر علف لشياهه فإنه يتجه رأسا لرئيس الشعبة (سي فلان) وقد يمد يده مسلما على المسؤول الحزبي النهضاوي. والحالة الوحيدة التي يمكنه أن يصير فيها النهضاوي (سي فلان) هي أن يبني شبكته اللاشكلية لإدارة الدولة خارج القانون. فيصير الصراع في المستويين الإجمالي (الماكرو) والافرادي (الميكرو). قائما بين فسادين متفقين بشكل ديمقراطي وقد اتفقا على ذلك في عيد العمال.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات