اكتب هذه الورقة تحت تأثير الصور القادمة من قرية (خمودة) من معتمدية (فوسانة) من محافظة (القصرين) الواقعة بالوسط الغربي التونسي حيث دهست شاحنة ثقيلة محملة بالاسمنت عددا كبيرا من الناس تجمعوا في سوق أسبوعية فاندلع بسببها حريق أتى على البشر والشجر ومات خلق كثير وجرح عدد لم يحص من الناس وانكشف بلا مواربة أو تمويه فقر الوضع الصحي بالمنطقة فلم تقدر المشافي المحلية على استيعاب الجرحى وإسعافهم.
الحادث البشع تزامن مع عملية إرهابية كانت تجري لحظتها داخل مدينة القصرين وقد خرج فيها الناس البسطاء إلى معاضدة الأمنيين الذين يحاصرون الإرهابيين في مكان ضيق بما ذكر الناس بمشاهد التضامن بين السكان والقوات النظامية في بن قردان (جنوب شرق) وكان المتابعون يؤلفون المشهد الوطني من هذا التضامن الشعبي العجيب ضد الإرهاب وكما في بن قردان حين رفع الناس (شعار بلادنا قبل أولادنا) جاء طفل يافع للأمني الذي يوجه المعركة ليسأله (عمي هل يمكنني أن أضربهم بالحجر؟).
في قمة التضامن حول الوطن يكتشف الفقراء أنهم بلا وطن. فالوطن الذي لا يوفر لهم طرقات كافية لشاحنة تضطر للسير وسط البشر ولا تجد طريقا تلتف به خارج مناطق العمران لا يشعر الناس بأنهم في وطنهم بل هم مجرد تجمعات بالصدفة تبحث عن الحد الأدنى للبقاء.
خطاب كشف الحقيقة يدمغ بالشعبوية.
حادث خمودة مثله مثل حوادث سابقة جرت بالمنطقة أيقظ المشاعر المجروحة والمكبوتة بفعل الفوارق بين الجهات. وقفز إلى السطح حديث المقارنات بين الداخل والساحل المحظوظ بعناية الدولة منذ نقل بورقيبة قوة عصبية الحكم إلى منطقته. ودون أن ننظر إلى الساحل كقطعة من سويسرا لا يمكن إلا نقارن بين ما توفر في الساحل وما لم تحظ به مناطق الداخل المنسية وأهمها على الإطلاق محافظة القصرين. الطرقات ليست نفسها. والمشافي مختلفة وكليات الطب محتكرة في الساحل. والجامعات منعدمة في القصرين والمناطق الصناعية تتجاور في الساحل بينما تغيب كليا عن القصرين. لا أحد يستثمر في القصرين لأن البنية التحتية فقيرة. وأهلها مدموغون بالكسل الغريزي في حين أنهم يشكلون الطبقة العاملة المهاجرة إلى الساحل. ومياه القصرين العذبة تنقل لصفاقس بينما تبقى القصرين لعطش دائم. والأراضي الزراعية غير قابلة للتوسيع والإصلاح لأن الدولة تحرص على تخصيصها لنبات الحلفاء الطبيعي الصالح لاستخراج الورق المناسب لطبع العملات. رغم أنها أراض قابلة للإصلاح بحكم انبساطها وخصوبتها البكر.
كل ما في القصرين يسبب الفقر ويراكمه ولذلك تقفز المقارنات إلى السطح غير أنها مقارنات محرمة فمجرد الإشارة إليها يدمغها المستفيدون من وضع التفاوت الجهوي بالشعبوية وتخريب الوحدة الوطنية. حيث تصير الوحدة الوطنية خطا أحمر ويصير الكاتب مخربا وعليه أن يصمت أو أن يصمت.
لقد ولى وانتهى حديث المساواة الذي ساد أيام كتابة الدستور حين تسرب من بين الحواجز مبدأ الميز الايجابي لحين التعديل بين المناطق. لكن زمن كتابة الدستور تحت تأثير الثورة صار من الماضي فالثورة التي دفعت فيها القصرين ومناطقها أكبر عدد من الشهداء والجرحى حيث تفنن القناصة في التقاط الأرواح في مدينة تالة وهي أفقر مدينة تونسية على الإطلاق صارت مذمة. والجميع يقول للجميع هل تصدق أنها كانت ثورة ؟ نحن الآن تحت حكومة التفويت. وعلينا الانتظار حتى أجل غير مسمى. والويل لمن يجرؤ اليوم على عقد مقارنات للوضع التاريخي البائس للمناطق الداخلية.
يحرم على مثلنا أن نشير على سبيل المقارنة إلى هبة الدولة ورجالها وأجهزتها للتعويض عن أضرار القطاع السياحي بعد عملية إرهابية في سوسة وبين ما أنفقت الدولة على القصرين قاطبة للتعويض والبناء. فهذا حديث جهويات يخرب الوحدة الوطنية. حادث القصرين في اليوم الأخير من صيف 2016 حادث رسم الحدود بين دولتين.
في انتظار اللاشيء.
خاض جزء كبير من التونسيين الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2014 مع الدكتور المنصف المرزوقي تحت شعار (ننتصر أو ننتصر) وكان الأمل معقودا على دفع برنامج الثورة خاصة في العدالة الاجتماعية وفي التسريع بالانتخابات البلدية والجهوية لوضع الدستور قيد التنفيذ. لكن فريق الثورة خسر الانتخابات وعاد منصب الرئيس والأغلبية البرلمانية إلى ممثل النظام القديم في ردة بدت غير مفهومة للأغلبية الطامحة إلى التغيير. بعد أقل من سنتين اكتشف التونسيون عجز المنظومة القديمة العائدة عن القيادة وعن ابتكار حلول لتونس. وقد أتت حادثة القصرين لتذكر بهذا العجز التاريخي الفظيع في إدارة الدولة من قبل هذه المنظومة فما الفقر الحالي إلا استمرار لما كان قبل الثورة ومنطقة القصرين هي المرآة الفاضحة لعجز الدولة. حيث يقف الناس الآن مكشوفين أمام فقر الحلول وحقرة الدولة لمواطنيها. لم يعد يمكنهم أن يستعيدوا شعار ومسيرة ننتصر أو ننتصر بل هم الآن في وضع ننتظر عطف الدولة أو ننتظر خرابها. وخرابها أقرب من عطفها.
ننتظر أو ننتظر أما الانجاز فلن يأتي فليست هذه الحكومة إلا تأجيلا لكارثة تطل كبداية إعصار .
توصيف الواقع ليس دعوة للثورة.
الماكثون في الحكومة والمهرولون إليها ينعتون كل حديث متشائم بالثورجية ويطلبون أن نصمت حتى تشتغل الحكومة واعتقد أن ما نكتبه لا يعطل الحكومة ويفترض في أجواء الحرية والديمقراطية أن ترحب به ليحرضها على وضع يدها حيث يجب فتقدم الأهم على المهم. المشكل ليس في ما نكتبه من توصيف. بل في ما تفتقده الحكومة من مبادرات شجاعة لإصلاح الأوضاع المتردية منذ ما قبل الثورة. كما هو الحال في القصرين. وعندما نقول أن صبر الناس لن يطول كثيرا على هذا الظلم الذي يتكرس بخطاب التحقير والامتهان فإن ذلك لا يتجاوز التوصيف. أما إذا اندلعت أحداث احتجاجية فلن تكون نتيجة ما نكتب بل نتيجة ما يجده الناس في حياتهم اليومية من خصاصة وعوز. ونضيف أن الاحتجاجات القادمة لن تكون بسيطة وموضعية بل ستتوسع بحكم اشتراك مناطق كثيرة في نفس الآلام والخيبات. وبالنظر إلى غياب التأطير السياسي والحزبي والجمعياتي فإن أي احتجاج قادم سنفلت من كل تأطير.
قد يفلح في صناعة قيادات جديدة لكن الأرجح أن السيطرة عليه ستكون عسيرة وسيزيدها عسرا أن هذه الحكومة تهيئ نفسها لقمعه لا للإصغاء إليه. لأنها قادرة الآن وهنا على الإصغاء قبل الاحتجاج ولكنها تمعن في تجاهل الاحتقان وترجح موت الشارع على عودته للحياة ففي كواليس الحكم يقول الخبراء المنعمون أن إدماج حزب النهضة ونقابة العمال في الحكومة سيمنع أنصارهما من الخروج ويتناسى هؤلاء أن الأحزاب نفسها ستكون هدفا من أهداف الاحتجاج وليست مؤطرته.
حادثة القصرين أنهت الأمل في الأحزاب التي دخلت السلطة وكلها دخلت يسارها ويمينها وأنهت الأمل في النخبة التي تسير السياسة من العاصمة. الشارع بعد حادثة القصرين مجروح في كبريائه وفي انتمائه الذي أخرجه صباح الحادث ليضرب الإرهابيين بالحجر. انه ينتظر ولكنه لن ينتظر طويلا.