حزب النهضة التونسي بين الدعوي والسياسي تجديد فكري أم مناورة سياسية ؟

Photo

ذهاب شورى النهضة (7و8 مايو 2016) في خيار الفصل بين الدعوي والسياسي في عملها والشروع في تأسيس عمل سياسي مختلف عن أدبيات الإسلام السياسي التاريخية يعتبر حدثا فكريا بامتياز رغم أننا لا نرى له حظوة في الإعلام بعد. بل نرى التفسير التآمري المعتاد الذي يقرأ نوايا القيادة السياسية على أنها مناورة للالتفاف على الإقصاء الداخلي والخارجي لتيار الإسلام السياسي دون الذهاب وراء السؤال، لماذا الإقصاء أصلا ولماذا قد يضطر حزب إسلامي لمثل هذه المناورات؟. كأن الإقصاء حق والهروب منه واجب وضرورة وجود. لذلك سننظر إلى الأمر على أنه اجتهاد ونحاول فهمه دوافعه وأفق تجسده في مجتمع يعيش اضطرابا فكريا إزاء الإسلام السياسي منذ نصف قرن.

1. النشأة الدعوية ومشروع أسلمة المجتمع.

قال راشد الغنوشي في إحدى تدخلاته عن التيار السلفي أن هذا التيار الآن يذكره بشبابه وأوِّلَ قوله على أن به حنينا إلى مرحلة السبعينيات عندما أسس الجماعة الإسلامية وبايع المرشد العام للإخوان المسلمين. وأنه متمسك بفرض مشروع الأسلمة السلفي الوهابي لكني قرأت الأمر من زاوية النقد الذاتي فالرجل يُجِري مقارنة بين ما كان عليه مذهبه ومشروعه وبين ما صار إليه بعد طول مراس السياسة والفكر. وهو يضع الفكر السلفي وراءه ليتقدم إلى المجتمع بطرح جديد يقوم على العيش مع المجتمع كما هو لا جذب المجتمع ليعيش كما يريد له الشيخ وجماعته. ولذلك فان ما ينشر الآن عن الفصل بين الدعوي والسياسي لا يكون إلا ضمن سياق النقد الذاتي وتطوير الأطروحة المؤسسة للحزب ليخرج من موقع الفرقة الناجية المالكة للحقيقة والمكلفة شرعا بقيادة الناس إلى الهدى.

لكن السؤال الذي يحق لنا طرحه والحزب يتوقف عن النظر إلينا كرعية ليتعامل معنا كمواطنين لهم الحق في السؤال ؟ ماذا سيبقى مما اصطلح عليه بالإسلام السياسي إذا تحول ممثله إلى حزب مدني غير مكلَّف شرعا بهداية الناس إلى الدين القويم؟.

2. سوابق على طريق التحول نحو المدنية

هذا التحول في فكر الحزب لا يفاجؤني لقد بانت مؤشراته منذ أزمة 1978 .لقد بدأ خطاب الحزب يتغير منذ اكتشف من داخل كهوف الدعوة المتطهرة من رجس الدنيا أن حياة الناس ليست البحث عن الحقيقة الربانية بل عن الخبز اليومي وأن الصراع الحقيقي هو صراع الاسترزاق دون أن يكون ذلك بالضرورة خروجا عن الملة. وتطور الدرس ليعبر في التأسيس سنة 1981 إلى إعلان الرغبة في المشاركة السياسية على قاعدة مدنية والخضوع لحكم الصندوق الانتخابي وطبعا بتشريك المرأة (الموضوع الحرام في فكر التيارات الإسلامية) في الترشح والانتخاب والقيادة.وهو ما أذكر أنه جلب تهم تكفير شرقية للغنوشي نفسه.

بعد سنوات المطاردة عاد الخطاب ليعبر عن رغبته في المشاركة في انتخابات 1989. والتي مارس فيها كحزب مدني كل أشكال الدعاية السياسية الانتخابية دون فواصل تكفير. لذلك أرى أن الفصل بين الدعوي والسياسي الآن وهنا هو حلقة في سياق من التطور الفكري التي تعطلت بفعل القمع الذي سلط على الحزب وقياداته طيلة أربعة عقود. ورغم هذه البدايات القديمة للإسلام السياسي في تونس إلا أنا نرى أنها الخطوات الأولى في خروج الأحزاب الإسلامية من مواقعها القديمة إلى مواقع لا علاقة لها بالمرجعيات الدينية اللهم في سلوك الأفراد. ولكن هل يفلح المشروع في أن يكون مدنيا فقط ويخرج من دائرة الأحزاب الدينية؟

3. صدمة التعرف على الدولة والإدارة المدنية.

السؤال الآن هل أن التطور الفكري علامة قوة للحزب أم علامة ضعف للأطروحة المؤسسة للإسلام السياسي ؟ أم هو خضوع أمام قوة الدولة المستغلقة في وجه الحزب الإسلامي؟ هذا السؤال مبحث كامل يستحق الكثير من الوقت والجهد ولكن لا بد من الإشارة أولا إلى أن الحزب (ربما شخص الغنوشي بالذات) لديه قدرة على التعلم السريع وهذه علامة قوة. تنكشف بضدها خاصة أي بقاء التيارات الإيديولوجية المعادية للإسلام السياسي وتيارات الإسلام السياسي الشرقية نفسها تراوح في مكانها الفكري والسياسي ولا تنتج اجتهادات عملية لتطوير فعلها في واقع متحول.

لقد اصطدم حزب النهضة بالدولة في مرحلة قصيرة. ولم يفلح في قيادها إلى غير ما تأسست عليه قبله. فسايرها ولم يسيّرها. واكتشف أن أطروحته القديمة لم تؤهله للقيادة. فأن يكون المسؤول متدينا ورفيع الأخلاق لا يجعله ذلك قادرا على وضع تصورات للإصلاح الزراعي وتنفيذها بما يعالج مشاكل التشغيل. أو يجعله قادرا على خوض مفاوضات كسر عظم مع الاقتصاد العالمي ليجد له مكانا فيه.

هنا اعتقد أن الحزب قد تلقى الدرس الأشد قسوة في تاريخه. درس تهونه دونه عذابات السجون والمنافي. إنه لم يبن خيالا لإدارة الدولة وتصريف شؤون الناس. وهذا الخيال لم يجد له مرجعية صلبة في التجربة التاريخية للإسلام إلا مبادئ أخلاقية واجتهادات في زمنها لم تعد قادرة على التطور من داخل تراث الحكم الذي مارسه المسلمون مستندين إلى النص.

أميل إلى الظن أن الحزب قد اكتشف أنه الآن في القرن الواحد والعشرين وأن عليه تدبير الشأن العام بمرجعية اللحظة العلمية. كيف تدير دولة حديثة؟ هنا يتوقف الإسلام السياسي القديم عن إنتاج الأفكار والحلول ليبدأ إسلام جديد قد نسميه إسلاما مدنيا أو إسلاما اجتماعيا هو في كل الحالات يبتعد سريعا عن مشروع تعليم الناس أخلاق الإسلام دون التفكير في إطعامهم من جوعهم وتأمينهم من خوفهم.

اعتقد أن الوضع مشابه بتحول الدولة الإسلامية الأولى من طوبى علي وأبي ذر إلى ذرائعية معاوية. الذي استلف من الفرس نظام إدارة لم يجد له أثرا في القرآن. السؤال المعرفي والوجودي الذي وقف أمامه اجتهاد الحزب وشيوخه. ما معنى الإسلام السياسي؟ وهو سؤال يتأجل في الشرق خوفا من مواجهة مشهد إدارة الدول الحديثة المهيمنة على مقدرات العالم. لذلك نسمع عن اجتهادات تنكص على عقبيها نحو متخيل مثالي به فرقة واحدة ناجية والبقية في الجحيم.

4. أفق الإسلام الاجتماعي

كم خسرت التجربة الديمقراطية في تونس بمنع الإسلاميين من التطور الداخلي؟ لقد قضى النظام السياسي أربعين سنة يدفع الإسلاميين إلى التطرف ولم يسمح للمجتمع أن يرى إمكانية تطورهم ورغبتهم في التعايش. ولكن لا داعي هنا للتأسف على الاحتمالات المهدرة لأن باب الهدر لم يغلق بعد. فتحول الإسلاميين عن مشروعهم القديم إلى حزب مدني ليست ضمانة للفَلاَح السياسي في إدارة الدولة. ولو كانوا جميعهم يتعلمون بسرعة الضوء .

ما لم يطرح الحزب للناس وهو على أبواب مؤتمره، مشروعا اجتماعيا يستهدف الاستقلال المعيشي (التنمية والتشغيل) والفكري(بناء الثقافة الحديثة داخل الحرية ويتحمل الكلفة السياسية والأخلاقية للحرية فسيظل في حذلقات الحديث عن التطور دون المرور إلى فعل البناء.

هذا مجال الاجتهاد الحقيقي ووضع الأطروحات القائدة ليس لحزب تونسي فقط بل لبقية الأحزاب ذات الهوى الإسلامي التي ربت عناصرها على معارضة الموجود دون التفكير في صناعة البدائل. كما قاومت طويلا من أجل حفظ البقاء عبر تسييس الدين ردا على تديين السياسة إلى حد التسليم بتسمية الإسلام السياسي الذي أطلقته مدارس التصنيف الغربية على هذه التيارات فارتضته لنفسها دون أن تضع له مضمونا من عندها.

يمكن للحزب الآن أن يشتغل كطليعة استكشافية لكل الأحزاب الإسلامية وهي مسؤولية كبيرة تقتضي أن يكون في الحزب أكثر من راشد الغنوشي… وفي كل المشهد التونسي لا نرى غيره مجتهدا. هل سيؤدي تغيير الرؤية الفكرية إلى تغيير موقع الضحية إلى موقع الفاعل؟ إن تغيير البنى النفسية والعقلية التي شكلت شخصية الإسلامي في العذاب ليست مضمونة. وقد تتحول إلى كابح للتغيير الفعلي. ونحن نرى الآن شواهد على الرفض والتردد.

سنتابع المؤتمر العاشر من قريب.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات