تونس تستدعي العاصفة

Photo

لم نكد نخرج من العملية الإرهابية التي شهدتها مدينة نيس الفرنسية حتى انفجرت المحاولة الانقلابية في تركيا.وتراكمت التفاعلات مع الحدثين مع توجس وحيرة كبيرة حول حكومة الوحدة الوطنية التي أعلن الرئيس التونسي عن ضرورة تشكيلها منذ شهر ونصف. الوقائع تترى والتونسيون يتفاعلون بقوة محتفظين بخلافهم الجذري العميق حول سبل التعايش داخل الديمقراطية وحول سبل بناء الحكم المدني المستقر والدائم.

الوقائع اليومية تكشف أن التونسيين منقسمون انقساما عميقا حول حاضرهم وحول المستقبل نتيجة فقدان القدرة على الحوار الشجاع في خلافاتهم رغم إعلانات حسن النية السياسية التي تهمين على الخطاب وتختفي في الممارسة. يمكن القول أن ما تفرزه تفاعلات التونسيين من الأحداث الدولية ذات العلاقة بالإسلام تشكل خميرة حرب أهلية تونسية لن تتأخر في الانفجار هي مؤجلة بعد ولكن قد يأتيها القادح من هنا أو هناك وسيكتشف العالم(الذي مجد سلمية الثورة التونسية) الروح الإقصائية الكامنة في صدور التونسيين. ولعلنا حينها نكتشف سر إنتاج التونسيين لهذا الكم من الإرهابيين العتاة المنتشرين على كل الجبهات.

نيس مدينة تونسية

ليس لجهة عدد التونسيين المقيمين بها إذ يبدو أنها كانت وجهة مفضلة للهجرات العمالية الأولى في الستينات والسبعينات. وهي هجرات ذات طبيعة أسرية يفتح السابق للاحق من أقربائه باب الاستقرار والعمل لكن لجهة اهتمام التونسيين بما جرى فيها خاصة وان الإرهابي الذي قام بعملية الدهس بالشاحنة ينحدر من هذه الهجرات وقد جعل ذلك التونسيين يركزون تركيزا شديدا على تتبع تفاصيل العملية وآثارها (يوجد أربعة التونسيين من بين ضحايا العملية). لكن التركيز لم يكن استخبارا عن الحيثيات من قبيل الفضول أو التثقف بل تناقر عدواني جدا بين الأطياف السياسية التونسية.

المتعاطفون مع الفرنسيين كانوا يريدون موقفا وحيدا لا يقبلون غيره. فحواه أن تونس تنتج الإرهاب لأن بها تيار إسلامي معاد للعلمانية. وأن هذا التيار هو سبب العار التونسي في فرنسا. وفرنسا هنا ليست بلدا بل مثالا مقدسا لا يجب تشويهه. فرنسا هوية لا يجب إعطابها بإرهاب إسلامي تونسي. وينتهي الموقف بشرط أخلاقي وسياسي.

على الإسلامي التونسي أن يقر بالذنب أن يتحمل المسؤولية في تونس ولن يقبل منه أن يعلن وهو الإسلامي موقفا ضد الإرهاب وضد منفذ عملية الدهس عليه أن يقر فقط أنه سبب الإرهاب ومنتجه وناشره وإرهابه يصير مضاعف الأثر إذا مس فرنسا وأهان صورتها في أذهانهم. وخلفية هذا الموقف فضلا عن ترضية عقدة الولاء لفرنسا هو مرتكز لسياسات داخلية تبرر القطائع ورفض التعايش في الداخل. وقد تماهى هذا الموقف مع فرنسا الجريحة بل فاق في بعض ردهاته موقف فرنسا من الإرهاب. بما ذكر تونسيين آخرين ببعض رموز هذا الموقف الذين ذهبوا يوما إلى فرنسا يطالبونها بالتدخل في تونس ضد الإسلاميين لحماية الديمقراطية بإسقاط حكومة النهضة(الترويكا).

عملية نيس الإرهابية كانت وسيلة بعض التونسيين لتوريط تونسيين آخرين في الإرهاب (خاصة اخسارهم احتمالات القبول بهم سياسيا داخل فرنسا) وهكذا ومثلما جرى في كل العمليات الإرهابية التي حدثت في تونس تصبح مقاومة الإرهاب ليست فعلا حقيقيا بل هي ذرائع لتوريط الخصوم ضمن معركة سياسية داخلية ينقصها السلاح بعد.

القراءة الثانية للعملية الإرهابية يتخذ أصحابها موقفا يقوم على ربط العملية بأسبابها الموضوعية ويتهمون فرنسا بتصنيع أسباب الإرهاب فهي قوة استعمارية أولا كانت ولا تزال. وما يجرمه أبناء المهاجرين على أرضها هو انتقام من تاريخ ظلم أكبر رغم طابعه الفردي إلا انه يبدو مبررا تاريخيا وفي كل الأحوال لا يمكن عزل الإرهاب عن مسبباته وسياسة فرنسا في المنطقة أحد أهم أسبابه دوما في. هذا التأويل يصب عند أصحاب الموقف الأول في التبرير وينتهي إلى تثبيت تهمة الترويج للإرهاب الذي ينتهي إلى توريط أصحاب الموقف فينتهي إلى ترسيخ قطيعة هي في الأصل جذر الاختلاف في التقييم والموقف. وكل الحوادث صالحة لتعميق القطيعة.

ثم انفجر الوضع في تركيا فاحتد الخلاف هنا.

والحرب الكلامية سجال حول عملية نيس حدث انقلاب عسكري في تركيا فهلل له أصحاب الموقف الأول حتى الساعة العاشرة بالتوقيت المحلي وأعلنوا نهاية نظام اردوغان مقرونا بخلود الأسد في سوريا. ثم انقلب ظهر المجن فانخسف المرحبون بالانقلاب وبرز أنصار اردوغان فرحين (الموقف الثاني).ثم تتالت المواقف بين منتصر ومهزوم. ولا يزال السجال الحربي قائما لا ينقصه إلا الدم.استعيدت علاقة اردوغان بالكيان الصهيوني وفضحت سياسيته التطبيعية. بينما أبرز أنصاره انجازاته الاقتصادية ومواقفه الشجاعة من قضايا عربية كثيرة. الحرب التركية فتحت جبهة بين التونسيين والمسكوت عنه في الخطاب الحربي.

اردوغان نصير الإسلاميين فإذا سقط سقطوا وفعل بهم مثلما فعل بهم بعد سقوط مرسي (وهم لا يزالون يعانون أثار سقوط مرسي) لذلك يجب الوقوف مع الانقلاب إنه يريح من (الخوانجية). الإسلاميون يعرفون ذلك لذلك يدافعون عن نصيرهم ونجدتهم. إنها معركة سياسية مسلحة بإيديولوجيات إقصائية لا تقبل القسمة على اثنين.

الاختلاف الممهد للحرب.

ليس بين الموقفين ثغرة حوار. والمتابع يجد نذر حرب لا ينقصها إلا الرصاص. واعتقد أنها تذكر بقوة بالتنافي السياسي المهيمن على كل فعل منذ زمن بعيد. بما يكذب الخطاب المنمق عن الوحدة الوطنية وضرورات التعيش على ظهر السفينة الواحدة .

لقد دأبنا على سماع خطاب التعايش ضمن التدافع منذ الثورة (التي لم تكن ثورة بل مؤامرة عند أصحاب الموقف الأول رغم أنهم يجنون نتائجها من الحرية والديمقراطية) لكن من الغباء تصديق ذلك فالوقائع على الأرض تتهيأ لمعركة دموية والأدهى إنها ستصبح ضرورية لحسم هذا الخلاف الجذري. فإمكانات التعايش تنعدم في ظل هذه الخلافات والحسم بالقوة سيكون ضروريا كعلاج الغرغرينا.

في حادثة نيس الإرهابية كما في كل العمليات الإرهابية السابقة (واللاحقة) تظهر الخلافات عوض بناء اتفاقات وطنية فعالة ضد الإرهاب. كل حادثة إرهابية عمقت القطيعة بين التيارين/الموقفين. وجاء الانقلاب التركي كحركة إضافية كاشفة لعمق خلاف التونسيين حول مسارات بناء الديمقراطية في الداخل.

التونسيون رغم وجه سمح في اللافتات الاشهارية لا يقبلون ببضعهم البعض ولا يتحملون كلفة التعايش ضمن الاختلاف. إنهم يتذاكون في إخفاء القطائع القائمة بين تياراتهم وأفكارهم والهدوء السائد (والذي يروج كنجاح تونسي) هو في حقيقته هدوء كاذب يتعرّى عند كل حركة ويكفي ما ذكرنا من الأمثلة.

حرب تشكيل الحكومة.

لقد كان يمكن التصبر والتظاهر بتجاهل الخلاف لو كان الوضع السياسي في الداخل مستقرا والماكينة الاقتصادية تدور. لكن البلد يعيش أزمة حكم وأزمة قيادة في قلب أزمة اقتصادية ترهن البلد وتدمر مقدراته وحكومته في حكم الميتة وتغييرها جار في الكواليس وفي هذه الكواليس يتم استثمار الإرهاب والانقلابات.

لقد استقوى التونسيون على بعضهم بقوى خارجية وحقروا وطنهم وجعلوا قوانينهم مسخرة والأسوأ أنهم مستعدون للمزيد. لقد حرموا أنفسهم من كل قدرة ذاتية على تدبر شؤونهم بأيديهم. لذلك لما حصل الانقلاب على الدستور بإعلان حكومة الوحدة الوطنية التي لم تتشكل بعد لم يحتجوا على ذلك بل تقافزوا كحيوانات الكنغر يبحثون فيها عن نصيب بما يجعل تشكيلها وتنصيبها المسمار الأخير في نعش الدستور.(الذي شكل لحظة إجماع استثنائية مقطوعة من سياق الحرب ذات 27 يناير 2014). ولن تكون بعد ذلك خطوات أخرى لترسيخ الديمقراطية ولو في الحدود الدنيا. سيكون الاستعداد لانتخابات بلدية في 2017 وأجزم أنها ستخاض على قاعدة بلديات بلا إسلاميين. هنا ننتظر شرارة الاحتكاك الأول بين الاقصائيين مساندي الانقلابات العسكرية والإسلاميين الذين لا ينقرضون من تلقاء أنفسهم فيريحون ويستريحون.

أتذكر أجواء تونس بعد سقوط الإخوان في مصر ومطالبات المحق السياسي التي ملأت الأسماع وقد انطلقت المطالبات ثانية ليلة انقلاب تركيا لكنها عادت للكمون بعد ساعتين في انتظار انقلاب آخر في مكان آخر يخسر فيه الإسلاميون نصيرا لهم

اختم متشائما إن شعبا تشقه اختلافات بهذا العمق لا يمكن له إلا أن يلجا للعنف حتى يحلها وهاهي نذر العنف تتجمع رغم خطاب التسامح في الإذاعات.وستكون حكومة الوحدة الوطنية حكما عاجزا عن إدارتها.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات