نتابع ما يجري في مصر دون معلومات استخبار دقيقة وكافية لبناء موقف تحليلي شامل وقريب من الحقيقة. لكن الصورة عن مصر الآن مقسومة إلى نصفين. النصف الانقلابي الذي يرى السيسي مبعوث العناية الإلهية لإنقاذ مصر من الإخوان وهو ماض في مهمته المقدسة لذلك فكل ما يقوم به جميل لا يعترض عليه. والنصف الثاني يرفضه رفضا كليا ويعتبره في ذاته جريمة في حق البلد والشعب والتاريخ.
وبين الموقف الموالي والموقف المعارض لا يبدو أن هناك نوافذ تقارب، بل ربما تستل السيوف قريبا لذلك نعتقد أن الحدوتة المصرية القادمة ستكون حزينة إذا استمر الانقلاب في الهيمنة وستكون أشد حزنا لو أخرجت السيوف من إغمادها واستشرى القتل وفي الحالتين مصر تخسر العرب والعرب يخسرون مصر. لكن الأمل قائم في خاتمة سعيدة يصنعها شعب يحب الحياة ويحول الألم إلى نكتة. شعب يمكنه أن يقود أمة حائرة.
فشل الانقلاب على كل الأصعدة
مصر هِبَة النيل صارت الآن وبعد سد النهضة هبة رئيس أثيوبيا. يمكنه لو رغب أن يقتّر عليها مياه الشرب أما مياه الري الزراعي فاعتقد أنها صارت رهينة الخضوع المصري لمن يتحكم في المنبع (والمتحكم الفعلي هو الصهاينة الذين طلبوا منذ زمن حصة من مياه النيل لم يحصلوا عليها من السادات ولا من مبارك ولكن النيل الأن بأيديهم ولن يمر الماء إلى مصر إلا إذا كانت فيه حصة لهم(.
لقد دخل الانقلاب على الناس بزعم تحويل أنهار جنوب القارة إلى مصبات في شمالها )وهي معجزة تقنية تحتاج مال أوروبا كله) وانتهى في أقل من سنتين إلى خسران نهره الحيوي وسبب وجوده في التاريخ وفي الجغرافيا.
أعدم الانقلاب مساحة الحرية التي فرضتها ثورة 25 يناير فقطع ألسن معارضيه، بدأ بالإخوان وانتهى بأقرب أبواقه فلم يسمع إلا صوته. وحتى الحد الأدنى من حرية الإعلام تحت حكم مبارك منع. ونطق الانقلاب بلسان فرعون قال السيسي (ما تسمعوش لحد غيري) وقال الفرعون (لا أريكم مالا ما أرى(.
فصل الانقلاب برلمانا على هواه وفرز نوابه (حبة، حبة)؛ ولكنه رغم ذلك منح السلطات العسكرية (التنفيذية) صلاحية رفع الحصانة عن النواب(السلطة التشريعية) طبقا لتقدير العسكر (المدعي العام العسكري) لخطورة النائب على الأمن القومي المصري. بما جعل السلطة القضائية نفسها تقف خلف العسكرية. فأعدم السلطات الثلاث بقرار ثم منح العسكر حرية الاقتراض من بنوك أجنبية خارج رقابة الدولة وسيادتها فكرَّس وجود دولتين داخل جغرافيا واحدة.
المضاربات والفساد وفضيحة التفريعة أدت إلى انهيار الجنيه أمام العملات الأجنبية والدخول في طبع العملة الوطنية بأقدار تفوق قدرة السوق على تحملها بما فتح باب التضخم الكامل ثم المزيد من انهيار العملة.
ألغى الانقلاب مشروع قمح مصر وأعلن التوقف عن زراعة القمح والاكتفاء بالاستيراد. ومع أزمة المياه القادمة فإن مصر لن تعطش فقط بل ستعطش وتجوع. ماذا بقي من مصر الدولة تحت حكم السيسي في ثلاث سنوات؟
أعرف أن أنصار الانقلاب في الداخل والخارج في دوامة لكن لنمر إلى السؤال الموالي عن المخرج من السيسي ومرحلته؟
السيسي أو الخراب ؟
وضع السيسي مصر بين خيارين هو أو الخراب ولقد كتبت يوم انقلب السيسي أن هذا آخر انقلاب عسكري في تاريخ العرب. وهناك مؤشرات على صواب هذا التوقع فمصر الآن تحت نظام جاء على ظهر دبابة. لكنه منهار على كل الواجهات ولا يجد مخارج سياسية أو تنموية تجعل المصري العادي(غير المسيس) يسلم له بالبقاء.
الرافد السعودي والإماراتي الذي نفخ في صورته انقطع والرافد الصهيوني يعرف فقط أن يبتز ويذل ولا يعطي شيئا والغرب الذي سانده يقف حائرا أمام بلاهة السيسي المهلكة وقد أدانه برلمان أوروبا بسبب مسألة حقوق الإنسان بعد قتل مواطن أوروبي تحت التعذيب. فمبن يقف السيسي الآن؟ وما حدود القوة الغاشمة إذا لم توفر الخبز والماء؟
هل يتراجع ويصالح؟ لا يبدو أنه قادر على ذلك فهو يشعر أن رأسه هدف حتى لأقرب الناس إليه. وكل حل خارجي يكون العسكر مهندسه باستبدال وجه السيسي بسامي عنان مثلا سيكون مهما تزين أسوأ من نظام مبارك. كل تراجع سيكون في اتجاه الإخوان.
أين الإخوان المسلمون ؟
كل السيناريوهات تنتهي إلى أنه لا حل بدون الإخوان؛ ولكن السيسي وعصابته يقولون لا حل مع الإخوان. وهنا تكبر العقدة في منشار الحل المرتقب. نتابع الأخبار عن تفرق صف الإخوان، وانقسامهم بين شيوخ وشباب يقود الشباب خطة مصالحة متجاوزين شيوخهم. فالوضع لم يعد قابلا للاستمرار والانفجار ثم الفوضى صارت احتمالا قريبا فيما يرابط الشيوخ (القيادة التاريخية) على موقف مفاده أن كل صلح مع السيسي ينقذ السيسي من الموت ويعيد الإخوان إلى مربع مبارك والأسلم هو ترك الانقلاب يأكل نفسه.
الساحة السياسية المصرية لم تشكل بديلا قويا يكون بديلا للسيسي والإخوان معا. الذين تحمسوا للانقلاب من خارج النظام القديم تلقوا ركلة قوية أخرجتهم من الفعل نهائيا وما يصلنا من حلولهم المقترحة لا يعدو كونه بحثا عن مربعات صغيرة لأشخاصهم في هامش الانقلاب. والسيسي يبخل حتى بحذائه القديم. إذا تحقق انقسام الإخوان يكون الانقلاب قد حقق أهم أهدافه في الداخل. ولكن المزيد من تفتيت الجبهة الداخلية ليس لصالح حياة سياسية متنوعة بل سيخفف أزمة الانقلاب ويمكن له مؤقتا؛ لكنه يفتح على سيناريو الرعب.
في جانب المعارضات المشتتة التي كانت مع الانقلاب (وأخذت زمبة) توجد مكابرة وعناد في العودة إلى التنسيق مع قيادة إخوانية يعقدها الإخوان بشرط الاعتراف بجريمة رابعة وبشرعية مرسي وبناء البديل على ذلك. وهي مكابرة تفيد السيسي حتى الآن ويبدو أنه يزيدها عمقا لينعدم أي احتمال للتآلف ضده ولو على مشتركات دنيا.
التحرك المدني الوحيد كان يوم احتجاجي للأطباء بعد اعتداء الأمن على أحدهم انتهى كأن لم يكن وتبين أن النضال القطاعي يظل قطاعيا وغير منتج لأنه بلا مشروع سياسي. وكل تأجيل للمصالحة بين مكونات الساحة يفتح على سيناريو العرب أيضا.
سيناريو الرعب!
الساحة السياسة المصرية الآن في حالة كساح. والوضع مناسب للانقلاب؛ لكنه لبلاهة عضوية في رأسه لا يجد مخرجا ليقدم للمصريين شيئا يذكر حتى الماء الصالح للشراب مما يجعل أصدقاءه في الغرب في حيرة من أمرهم.
يقرؤون الساحة فيجدون الجسم الأقوى رغم المذابح هو جسم الإخوان هم رقم لا يمكن القفز فوقه بعد أن تعذر إلغاؤه. فيطرحون أسئلتهم الإستراتيجية إلى متى يمكن دعم الانقلاب ماديا وسياسيا؟ أي كم كلفة السيسي أو كم كلفة استبعاد الإخوان؟ من يكون بديل السيسي؟ كيف نتعامل مع الإخوان الذين لا يموتون بل يعيدون التشكل؟
إنهم يصلون إلى قناعة أن عمر الانقلاب الافتراضي قد نفذ وأن البديل السلمي ضروري لأنه في غياب حل سلمي يطرح سيناريو الرعب نفسه على شكل انفجار غير قابل للضبط يدخل فيها 100 مليون شخص حربا أهلية لا يمكن توقع نهايتها ولا مخرجاتها ويكون من ارتداداتها الحتمية تهديد أمن إسرائيل. فتغنم فيها حماس المزيد من الأسلحة. وقد يمتد طموحها إلى تهديد سلطة عباس في الضفة فضلا عن تهديد أمن الممر البحري الدولي الأكثر حيوية لاقتصادياتهم. فضلا عن فتح بوابة لتوسع داعش التي تخسر على كل الجبهات التي تفتحها. فتتسرب بنجاح إلى بؤر الاضطراب.
الحكمة تقول: يجب البحث عن نهاية غير مؤلمة للحدوتة المصرية؛ لكن الحبكة آخذة في التعقد بعد. والممثلون يتناظرون فوق ركح ملتهب. لكم ضمن الحدوتة العربية الكبرى التي تضم فصلا مصريا داميا وصل العالم إلى قناعة انه لا يمكن الاعتماد على العسكر بعد السيسي لخلق سلام في المنطقة يديم وضع إسرائيل. هذه نهاية سعيدة لكن سيدفع فيها ثمن مصري موجع للجميع؛ لكن يبدو أنه ثمن ضروري لإنهاء سلسلة الانقلابات العربية التي استمرت لأكثر من ستين عاما. قدر البلدان العظيمة أن تدفع ثمنا عظيما لتكون أم الدنيا.