تهمين صورته الآن كذكرى بعيدة وقريبة. الزمن فرقنا.لكني حملته في شراييني . رجل وضعه قدر غريب في طريقي كلمّا استعدت طفولتي عاد منها ركنا مكينا. شجن الكهولة المجروحة الأمل يأتي به ولحظات الألم تجسده حيّا يكلمني كأن لم نفترق.
آخر مرة رأيته منذ عيدين كان مصابا بنحافة قاتلة فقد تخلص من نصف معدته. ويعيش بالهواء لكن بريق عينيه لا يزال ينفذ إلى طفولتنا فقد تذاكرنا دماء على الحدود. الحسين بن علي الحوار. فتى من أسرة عربية من أصول ليبية هرب جده من الطليان وألتجئ إلى قريتنا قد يكون من المقارحة أو التراهنة فلم أتبين حتى الآن ولم أسع. كانوا موالي بلا أرض في قبيلة تعتز بالتراب فترحب بالضيف ولا تملكه أرضها. لذلك كان لا يجد مرعى لقطيع أبيه. فيعتمد أبوه على أبي ونجمع القطيعين الأرض المرعى مقابل رعايته لقطيعنا.
انقطع حسين عن الدراسة فقد كان امتحان السادسة عسيرا جدا لكن الله منحه ذاكرة عجيبة للحفظ. وقد وقع حيث لا أدري على كتابين حفظهما عن ظهر قلب. عرفت لاحقا أنهما كتابي أمحمد المرزوقي دماء على الحدود و سيرة محمد الدغباجي. كنت أقضي يومي في المدرسة وأعود لالتحق به وهو يطيل عشاء القطيع حول حواف الزرع (يزنق ) ويحتاج مساعدة فقد كانت كل سنبلة عزيزة. وكان الحرص على عشاء القطيع يسبق الحرص على عشاء الراعي وكان ينتظرني كل عشية من عشايا مارس الطويل وقد أخد منه الجوع. ببرنسي الصغير أسير إليه وبجيبي تمر مسروق من ذلك البرميل الغنيمة من خط مارث.
قبل أن أصل إليه يبدأ في مناغاتي بجو خمسة يقصوا في الجرة وملك الموت يراجي فالتقط العجز لحقوا مولى العركة المرة المشهور الدغباجي. يسترد روحه بالتمر ونبدأ في عرض المحفوظات . كل القصائد كانت مرتبة في رأسه هو يبدأ وأنا أواصل ثم يروى لي معارك الدغباجي كما في الكتاب ويزيد من عنده تفاصيل تربطني به حتى يقع الحلال في الزرع فأجري أطارده فأرده لأقترب من الراوي الذي حفظ الكتابين كأنه يقرأ من ورقة. يومها عرفت الدغباجي ومعاركه.
كبر في رأسي كنت أحلم به طويلا جدا يطل علي في الليل ويقول لي جو خمسة …فأكرر في نومي وكثيرا ما استيقظ ملقيا بقية القصيد حتى ظن بي أهلي الظنون. وشكته أمي إلى أمه أن سيدروش ولدي. لكني كنت في عالم آخر. حتى ألقيت في القسم بعض ما حفظت على معلمي أحمد العدوني في حصة الفرنسية للسنة الرابعة. كان معلمي هذا رجلا كأنه ملاك وكان يدللني لأني أجبت ذات حصة تفقد إجابات نصرته أمام المتفقد نصرا مؤزرا ربما كان وراء ترسميه في السلك. في حصص رعي كنت وحدي وكنت ألقي الشعر على الهضاب والوديان والحطب والمعز. وكم خضت معارك ضد الكيلاني وكم صورت هذا الكيلاني كالمعلم عبد الحميد الذي كان يمسكنا بورقة من ملابسنا حتى لا تتسخ يده وكان يحمّلنا بالفلقة لخطأ لا يراه سيدي أحمد خطأ.
بنى الحسين في ذهني صورة لم تمح وكثيرا ما ألمتني في كهولتي البائسة ماذا لو قرأ لي قصصا أخرى ماذا لو لم يقرأ لي قصصا ماذا لو لم يضعه القدر في طريقي ربما أفلحت في الرياضات وصرت مهندسا وبنيت بيتا كبيرا وسيارة مخيفة في الطريق. كان سيدي محمد الكاروس قد التقفني في المعهد في درس الرياضيات وكان يعطيني عدد جيدا لكنه انتبه إلى قدرتي على الحفظ فاهداني مصحفا وقال لأبي سيكون من حملة القرآن لكن خاب ظنه فيّ لما قرأ لي مخلاة السراب وطيبت خاطره وأنا على يقين أن لن يقبل الرجل المتصوف العامل رجل الأدب.
كان الحسين فتى كالغزال قطعت مدرسة أمله فهام وراء رزقه حتى انتهى عاملا مجهولا في مدينة قابس. لكن جئت بصورته الفتية إلى الشمال كلما شدني شجن إلى طفولتي جاء وكلمني بصوت به بحة تجعل الشعر على لسانه لذيذا. ذلك الحسين علمني الكثير .كان يسعد بتلميذه وكنت أسعد بمعلمي واستزيد . لبيك يا حسين كان العشاء وراء القطيع قصيرا وكان القمر قريبا لذلك نستعيد الدغباجي تحت القمر. حتى نسمع نداء الخيمتين يشق الليل. نعرف أن قد تأخرنا وان ما تيسر قد برد حتى لم يعد عشاء تصل نعاجنا متخمة تتنفس العشب وتصبح جرارنا مليانة بحليب ساخن. وأصبح كأني الدغباجي.
لبيك يا حسين لو كان يمكن أن أهديك بعض ما علمت لتعلم أن قد علّمتَ الكثير خارج مدرسة الغرابيل الضيقة. ساجد يوما نسختين جديدين من كتابيك اللذين حفظت لنقراهما وقد ثنانا الزمن على كرسيين أعجفين. وسأقرأ لك كما قرأت لي وقد تسيل دموع ولكن الوفاء خلة فيك علمتها وراء القطيع. أما رهافة حسك فقد كنت أراها في عينيك وأنت تتألم لمعزاة صغيرة تلذ جديها الأول. لمثلك سأحج فاصبر قليلا على قرحة المعدة.