لم يمر العيد في تونس بلا ألم، فقد تم العبث بالرواتب التقاعدية لقطاعات واسعة من الموظفين وخدام الدولة سابقًا، وسط ذهول عام وخيبة كشفتها صور رجال مسنين يبكون قهرًا تحت شبابيك البنوك المغلقة، انتظروا طويلا ولم يحصلوا على حقوقهم، فتذكروا سنوات الخدمة التي انتهت بإهانة.
صدرت إشارة في غير سياقها عن يوسف الشاهد رئيس الحكومة قبل العيد بأسبوع كامل، إذ صرح دون مقدمات مفهومة أن الرواتب ستصرف قبل العيد، كأنه كان يتحسس العبث بها، فتم الرد على شجاعته الفجائية بخطأ تقني جعل فئة من الناس يلغون شراء الأضحية أو يستلفون كي لا يكون العيد أشد بؤسًا وتنكيلاً بالأولاد والأحفاد، ثم بدأت تنهمر التفاسير والتبريرات واجتمعت مؤشرات كثيرة على ما يفيد نية إفشال رئيس الحكومة بوضعه موضع سخرية أمام الفئات الهشة التي ليس لها إلا رواتبها التقاعدية.
بعض التبريرات لا تقنع الأغبياء
أصدرت نقابة موظفي البنوك ما يفيد بوجود خطأ تقني تمثل في (كراش معلوماتي)، إذ تم تحويل كل الرواتب على بنك واحد من القطاع البنكي الخاص وكلف بتقسيمها بين البنوك حسابات الحرفاء، ومن غرائب الصدف أن موظفي البنك المعني كانوا قد خاضوا إضرابًا احتجاجيًا على وضعهم المهني ويستعدون لمواصلته.
بالتوازي تم تحويل جزء من الرواتب على الحسابات البريدية (وهي غير البنوك) فتم صرفها في حينها، وطرح الناس السؤال التقني: كيف كان الأمر يجري قبل راتب شهر أغسطس؟ فهذا الكراش المعلوماتي لم يحصل أبدًا، فمن أخطأ التحويل؟ وهل هو متعمد أم جاهل؟
أمر رئيس الحكومة بفتح تحقيق جزائي وتوعد المتسببين، وروج أنصاره دعوات لإقامة القانون ومحاسبة الفعلة ولكن من الفعلة الحقيقيون؟ لن نعرف نتيجة التحقيق مثلما لم نعرف نتائج آلاف التحقيقات التي انطلقت ولم تصل، فالأمر يتجاوز قدرة محقق أعزل لينتهي بالناس في دوامة الأخبار المتضاربة.
ولكن اليقين أن المؤامرة على رئيس الحكومة قد بدأت تشتغل قبل أن يعلن الرجل ترشحه للرئاسة أو يتراجع عن رئاسة الحكومة كما هو مطلوب منه في هذه الفترة ليفسح الطريق لخليفة من بيت الرئيس وليس للرئيس إلا ابن واحد طموح (الابن الثاني ناشط في قطاع الأعمال على طريقة الطرابلسية وليس له طموحات سياسية اللهم الاختفاء خلف أخيه بعد أبيه ليواصل النجاحات المالية بصمت).
وزير الشؤون الاجتماعية ليس بعيدًا عما جرى
راجت وتروج منذ أشهر أخبار تتعلق بأزمة الصناديق الاجتماعية المشرفة على الإفلاس، فالضمان الاجتماعي في تونس منظم عبر ثلاثة صناديق تسمى الصناديق الاجتماعية: أولها صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية ويهتم بمنظوري القطاع العام وموظفي الدولة، وثانيها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ويهتم بمنظوري القطاع الخاص والمؤسسات العمومية ذات الصبغة غير التجارية.
والصندوقان المذكوران يمولان الصندوق الثالث وهو صندوق التأمين على المرض ويهتم بمنظوري القطاعين الخاص والعام في المسائل الصحية، وتشرف وزارة الشؤون الاجتماعية على الصناديق الثلاث وتراقب التصرف فيها، فإذا كانت على وشك الإفلاس فوزير الشؤون الاجتماعية هو المسؤول الأول عن ذلك، علمًا أن الاتحاد العام التونسي للشغل من يختار تقريبًا الوزير ويفرضه على الحكومات بدعوى الحرص النقابي على المسألة الاجتماعية، والوزير الحاليّ (محمد الطرابلسي) كان عضوًا في المكتب التنفيذي للنقابة طيلة سنوات طويلة.
لم يصدر عن الوزير ما يفيد إفلاس الصناديق ولكن لم يصدر عنه ما يفيد نفي ذلك إلا حديث عن إصلاح ماليتها قبل إعلان الإفلاس، لكن لاحظنا أمرًا مهمًا، كانت مطالب النقابات قبل تعيين وزيرين متتاليين من قبل النقابة تنزيل سن العمل إلى 55 سنة خاصة في قطاع التعليم أي أن التقاعد سيكون في سن 55 سنة، لكن بوزيرين مرضي عنهما نقابيًا تم الاتفاق على جعل سن التقاعد 62 سنة و65 (حسب القطاع) قابلة للتعديل بالزيادة بحجة تنامي أمل الحياة وخوفًا من إفلاس الصناديق، هذا الانقلاب في المطالب يفسر تواطؤ النقابات على الشأن الاجتماعي بما يثبت تهمة ضلوع النقابة في أزمة صرف الرواتب للمتقاعدين قبل العيد.
موقع النقابة من التوريث يفسر الكثير
كان موقف النقابة قد اتضح منذ أيام مناقشة وثيقة قرطاج، إذ انحازت إلى شق ابن الرئيس وأعلنت الحرب على الشاهد، فنجاة الشاهد من الإقالة لم تغير موقع النقابة ولا موقفها السياسي (الذي هو موقف اليسار) وخاصة لأن الشاهد صار في كواليس النقابة حليف حزب النهضة التي أنقذته.
وما نشهده الآن في الكواليس هو مواصلة الحرب حتى إسقاط الشاهد وكسر طموحه الرئاسي، ولذلك لا يمكن عزل حرب الرواتب عن الحرب على الشاهد خاصة أن نقابات الضمان الاجتماعي من القوة بحيث تفرض ما تريد وقد كان لها سوابق إقالة مديرين عامين وتعيين أبناء النقابيين دون مناظرات وطنية، أي خارج القانون ضمن مبدأ التوريث الاجتماعي وهو بدعة نقابية تونسية.
إذا ظهر الشاهد بمظهر العاجز عن صرف الرواتب التي لم تتعرض إلى كراش معلوماتي منذ دخلت الإعلامية إلى الإدارة التونسية، فقد خسر المعركة، فكان من الواضح أنه يتحسس المؤامرة لذلك صرح قبل العيد بصرف الرواتب لكنه عجز وانتصرت الجهة التي تناصبه العداء ولكن لا أحد سأل في خضم هذه المعركة عن مشاعر المتقاعد الذي يبكي تحت جدار البنك وقد عجز عن شراء أضحيته.
حرب قذرة ستتوسع
لا يمكن تجاهل مؤشراتها فإذا جمعنا حرب الرواتب إلى ما فعله سائقو النقل العام قبل العيد إذ أوقفوا وسائل النقل فجأة دون إنذار وتركوا الناس تهيم في الشوارع (من أجل الحصول على تسبقة مالية لشراء الأضاحي) وما أعلن عن إضراب المطارات قبل بدء موسم الحج وفي قمة الموسم السياحي يكشف أن العصا الغليظة قد أشهرت في وجه الشاهد وعليه أن يخوض حربًا قذرة مع النقابة وما من عصا غليظة غيرها بيد صف التوريث.
الأمر يتحول إلى مسألة حياة أو موت بالنسبة للنقابة، فبقاء الشاهد يعني هزيمتها وعجزها عن ممارسة دورها الذي اعتادته في خدمة شقوق النظام، فهي تدفع حرب التوريث إلى مداها ليخرج الشاهد (حليف النهضة المحتمل لما بعد 2019) من الصورة.
في الأثناء لا يملك الشاهد قوة كافية لمواجهة حرب يتحالف عليه فيها الاتحاد وابن الرئيس خاصة أنه يستنكف أن ينعت بحليف النهضة، فرهانه ما زال تقديم صورة القائد الحداثي المترفع عن الرجعية الدينية، ولن يمكن له ذلك من خارج حزب النداء وقاعدته الانتخابية الحضرية بالدرجة الأولى بما يفقده نقطة قوة لا يملك لها حولاً ولا قوة وهو الخروج من جبة النداء والاشتغال على إنجازاته وكيف له يذكر بإنجازات وهو العاجز عن صرف رواتب المتقاعدين.
ستستمر الحرب حتى الانتخابات، لكن الضحايا ليسوا الشاهد ولا ابن الرئيس ولا أعضاء النقابة بل ذلك المواطن الهش الذي يبكي تحت الجدار إذا تأخر راتبه يومين.