عندما كنا أطفالاً كان كبارنا يقولون إن موت بورقيبة سيكون يوم قيامة تونس أو توقُّف الأرض عن الدوران. كبرنا وعشنا نهاية بورقيبة ولم تقُم القيامة وظلّت الأرض تدور حتى وصل الباجي قائد السبسي رئيساً.
ثم توفاه الله ولم يربط أحد بين نهايته الطبيعية ونهاية العالم، وإن كان البعض عمل على إيهام التونسيين بأن المتوفى كان يمسك السماء أن تقع فوقهم، وها نحن أولاء ندعو له بالرحمة ونفكّر في مستقبلنا السياسي من دونه.
لقد أيقن الناس الآن أن مصيرهم ليس بيد شخص أو زعيم، وهذه أول منافع الديمقراطية التي تحرر عقل الإنسان. لكن في الطمأنينة السائدة لا بد من أن يكون للموت أثر في ترتيب البيت التونسي. هذه بعض توقعاتنا للمدة القادمة.
اقتسام ميراث السبسي بين أنصاره
ليس للرجل ميراث مؤسساتي سوى ما تَبقَّى بيد ابنه من حزب النداء، فخلال سنوات حكمه تَفكَّك الحزب الذي وصل على متنه إلى السلطة. كانت قابلية التفكك منذ التأسيس واردة، وقد حصلت بلا مفاجآت.
انسحب اليسار الثقافي الذي أسس الحزب فعلاً، لسبب واضح هو أن الباجي لم يقبل خوض حرب ضد الإسلاميين، حرب كان يريدها اليسار المذكور سواء يسار بن علي أو يسار فرنسا (وهو الأقرب إلى الصواب).
ثم صعّد الباجي نسيبه يوسف الشاهد لرئاسة الحكومة فتمرد عليه ساحباً معه أكبر كتلة من النواب وذهب إلى حد تأسيس حزب مُوازٍ ليدخل به استحقاقات ما بعد السبسي والنداء.
ثم اختصم الباقون بالنداء فانتهي فرقتين (نداء المنستير ونداء الحمامات). الأيام الأخيرة للباجي كانت بلا حزب، وكانت أماني التونسيين أن يظل الرجل على قيد الحياة حتى يستوفي مدته القانونية فلا تختل مواعيد الانتخاب، لكن الله أراد غير ذلك.
الجماعات واللوبيات التي أسست النداء انتهت الآن إلى أكثر من خمسة أحزاب كلها تزعم الميراث البورقيبي، ولا أحد منهم يضع الباجي في نفس المنزلة، فكأنما كان أنصاره أول من يمسح أثره السياسي.
لكن جمهور ناخبي النداء سيشكّل رصيداً تُخاض من أجل كسبه معارك بين كل من زعم الانتماء إلى بورقيبة. التجمعيون ويسار فرنسا وكثير من المتوترين جبلة ضد الإسلاميين يبحثون الآن عن ملجأ انتخابي، وهنا ستحتدم معارك الشهرين القادمين ومن يفوز بأكبر عدد من أصواتهم.
السؤال عن تونس بعد الباجي سيظهر بعض إجابته في هذه المعركة، ويبدو أن يوسف الشاهد هو الأقرب بحزبه (تحيا تونس) إلى الفوز بأكبر عدد من كوادر النداء، وقواعده الريفية المحافظة.
في مشهد ما بعد الباجي سيكبر يوسف الشاهد، فقد انزاحت شرعية الباجي، المؤسس والمخضرم والمحنَّك، من طريقه. أما ابن الباجي فقد خسر كل حماية داخل الحزب وخارجه. واعتقد أن موت والده يعني موته السياسي، وقد يجد له من الخصوم (أو الأعداء) من يجره إلى المحاكم. فلم يؤمّن الباجي أسرته سياسيّاً حتى وفاته، ويعود ذلك إلى فشل الابن وخيبته لا إلى تعفُّف أبيه عن المحاولة.
الفراغات حول حزب النهضة تسمح له بالتمدُّد
منذ بدأ حزب النداء يتفكك بدأ حزب النهضة يبرز كحزب أول وبلا منافس تقريباً. وكثير من الفعل السياسي في تونس كان لمحاولة منافسته أو الحلول بعده في الترتيب. شخصية الباجي كانت حصناً لكثير من الهاربين من النهضة، ولكن الحصن انهار تقريباً، والفلول لا تجد لها مقرّاً، وقد يستجير كثير منها بالنهضة المستعدة لقبولهم. كلما تفكك حزب مد حزب النهضة ساقه في مكانه.
النهضة بعد الباجي مكان آمن، ولولا أن موت الباجي لا يقارَن بفتح مكة لقلنا إن النهضة الآن هي دار أبي سفيان.
النهضة تبحث عن أصوات في صندوقها وتبحث بالخصوص عن تحييد أكبر قدر ممكن من الناس، فلا يؤذون الحزب وأنصاره (أذى بن علي واليسار). على قاعدة"مَن ليس معي فليس بالضرورة ضدّي".
هنا يتمدد حزب النهضة انتخابيّاً، ويتمدّد بخاصة سياسيّاً، إذ ستزول ريبة الاندماج بالتدريج ويخفّ خطاب رمي الإسلاميين وراء السحاب حتى يحلّ موعد "إذا عندك مشكلة ابحث عن حلها عند النهضة".
وهذا أقصى أشكال التمدُّد السياسي في ظرف انتقالي يصارع أزمة اقتصادية لا تبدو حلولها في المتناول.
لكن في ظرف انتقالي يشتغل بالتوافقات السياسية لم يعُد لحزب النهضة شريك يعتمد عليه، فالجميع يعرف عمق التنسيق بين الباجي والغنوشي حتى صيف 2018 (تاريخ رفض الغنوشي إقالة يوسف الشاهد)، والآن مع من سيتفاوض الغنوشي لإدارة فترة ثانية من الانتقال الديمقراطي؟
كل خطاب الغنوشي السياسي ينتهي إلى أن المرحلة تحتاج إلى توافقات لا حكم حزب واحد مهما كان رصيده الانتخابي، لذلك نخال الغنوشي الآن يبحث عن شريك ولا يجد، بل نعتقد أنه سيتعرض لابتزاز كبير لكي يؤلّف حكومة توافقية بعد الانتخابات.
مَن الرئيس القادم؟
الأكيد الظاهر الآن أنه سيكون مدنيّاً لا عسكريّاً، وسيصل إلى السُّدَّة بالانتخاب، فتونس بلد لا يحب الانقلابات العسكرية.
في سنوات خلت عندما كان أنصار الباجي يتحدثون عن إعادة ترشيحه كان كثيرون يُحجِمون عن نية الترشُّح ضده، إذ يوقنون بخسارتهم، ولكن وقد انزاح المنافس الأقوى تبدو طريق المغامرة مفتوحة. ستكثر في غرام قرطاج الأسماء، ولكن يجب المرور بحزب النهضة.
النهضة (قبل الباجي وبعده) تملك بعض مفاتيح قرطاج وإن لم ترشّح من صفوفها. المعضلة الآن أنه قد يصل إلى سدة الرئاسة شخص بلا حزب ممثل في البرلمان. لذلك فالمفاوض النهضاوي الذي قد يقايض الحكومة بالرئاسة خسر ورقة مهمة بتقديم موعد الانتخابات الرئاسية من شهر نوفمبر إلى شهر سبتمبر.
صعوبة أخرى قادمة في طريق تشكيل الحكومة وفي طريق تمدُّد حزب النهضة في المؤسسات (رغم أن معالم البرلمان لم تحدَّد بعد).
رئيس بلا تمثيل برلماني سيعيش بدوره صعوبات مع البرلمان، هذا واحد من احتمالات الحرب السياسية القادمة. عجز المؤسسات عن التخاطب. لن يكون بإمكان رئيس مبتور من البرلمان أن يستفيد من حقه في المبادرة التشريعية، وقد يرسل إلى البرلمان مسوَّدات القوانين فتُركَن على الرف.
ولن يكون بإمكانه إلا رفع صوته بتعديل الدستور لتوسيع صلاحيات الرئيس التنفيذية كما فعل الباجي. وهذه المسألة صارت وراء التونسيين كمسألة الانقلابات العسكرية. ولكن في انتخابات رئاسية بدورتين يمكن للمفاوض النهضاوي أن يعيد تشكيل أوراقه في كفه ومواصلة اللعب.
يوم 15سبتمبر/أيلول سنعرف رئيسنا القادم ونعيد بناء توقعاتنا على ما يأتي بعده. حتى ذلك الحين نحن نتمتع بانتقال سلس للسلطة ونغيظ به عشاق البوط العسكري.رحم الله أول رئيس عربي مات موتاً طبيعياً.