الحراك السياسي المتسارع هذه الأيام في تونس يشير إلى أن قطار انتخابات 2019 انطلق، وأن يوسف الشاهد رئيس الحكومة الحاليّ يقفز إلى قيادته واضعًا الجميع أمام أمر مقض؛ فإما رئاسة حكومة ما بعد 2019 بقوة وبكامل صلاحياتها الدستورية أو رئاسة الدولة بقوة شبابه وسحنته الحضرية ذات الحق المطلق في قرطاج.
من سيركب قطار الشاهد؟ ومن سيفوته القطار هذا الصيف؟ تتضح الرؤية أكثر فلا ثلج في صيف تونس وإنما حر شديد يكشف المرج، والمرج في تونس ليس السهل بل معنى من معاني الاضطهاد الشديد، سيكون لطموحات يوسف الشاهد ضحايا وقد بدأ العداد في الإحصاء، لكن هل يملك الرجل إمكانات القيادة وأدواتها؟
إسقاط وزير الداخلية بضربة ماحقة
أقال الشاهد وزير الداخلية لطفي براهم فأثار ردود فعل متناقضة بعضها مرحب شاكر مثن على شجاعة القرار وبعضها غاضب حاقد وداع إلى التمرد المسلح على الحكومة، فمن وزير الداخلية؟ وما حجمه الحقيقي؟ وهل كان سيشكل عقبة فعلية في طريق الشاهد إلى مستقبله السياسي؟
لطفي براهم ضابط (جنرال) ابن المؤسسة الأمنية جيء به من الحرس الوطني إلى الوزارة منذ 9 أشهر فقط، قيل ضابط مهني وقيل ابن المؤسسة وجمهوري الهوى، لكن تبين أن للرجل طموحات تفوق منصبه وتبين أن هناك من يريد منه تنفيذ مهام خاصة قد لا تقل عن تنفيذ انقلاب مشابه لانقلاب بن علي في 1987واستلام السلطة في حالة اضطراب واستعادة قبضة الأمن وتصفية العملية الديمقراطية برمتها.
الذين قالوا بذلك اعتمدوا على زيارة قام بها الوزير بصفته وبمعاونيه الأقربين إلى ملك السعودية دون العودة إلى رؤسائه (رئيس الحكومة ورئيس الدولة) ودون أن يقدم لهما لاحقًا تقريره عن الزيارة، وذهبت بعض التخمينات دون دليل ملموس إلى أن الرجل نسق في زيارته مع بن علي المنفي هناك وبنيت روايات كثيرة عن انقلاب قادم أفشله الشاهد بعزل الوزير.
البعض ربط فقط بين العزل وواقعة غرق المهاجرين السريين، ورغم أن الوزير قام بعملية تطهير في الأجهزة الأمنية بولاية صفاقس فإن ذلك لم يشفع له عند رئيسه الذي اغتنم الفرصة وانتقم من وزير لا يبادله حتى مجرد التحية البروتوكولية.
العنصر الثالث الذي لم يثر الاهتمام أن وزير الداخلية يمثل رأس حربة سياسية طامعة في السلطة وتتخذ الوزير طريقًا ووسيلة، هنا نستعيد عناصر تحليل المشهد التونسي الأشد عمقًا في التاريخ أي الصراع بين كتلة (لوبي) الساحل وكتلة العاصمة وهذا صراع يعود إلى قرنين من الزمن، يمثل الشاهد التوانسة ويمثل براهم السواحلية.
يبدو أن براهم مثل أمل السواحلية أو بعضهم في استعادة ما كان لهم زمن بورقيبة وبن علي؛ لذلك اشتغل على استعادة لوبي الساحل لنفوذه وربما كان تعيينه منذ البداية خطوة من هذا اللوبي الذي لم تفككه الثورة فاتخذوا لهم رجلاً قويًا في الأجهزة ليتحرك في الاتجاه المطلوب.
لكن ثمة عنصر أفلت من الوزير الطموح، لوبي الساحل المالي خاصة لم يعد على قلب رجل واحد، فقد عبرت زهرة إدريس النائبة في البرلمان عن النداء ممثلة أسرة إدريس القوية (هذه الأسرة هي عامود الساحل المالي والسياسي منذ زمن بن علي)، عن حماسها ليوسف الشاهد في هذه المرحلة، ويعتبر هذا اختراقًا قويًا للشاهد في أرض معادية تاريخيًا للوبي العاصمة، وقد يكون ذلك شجعه على تصليب موقفه في هذه الأزمة التي تستهدف مستقبله السياسي.
وجب التذكير هنا أن رئيس الدولة (رئيس النداء ومؤسسه) قد استشعر هذا التوجه عند الشاهد منذ توليته فاستبق إلى الساحل في زيارتين سياسيتين سنة 2018 لقطع هذه الطريق، لكن يبدو أنه لم يفلح في تحجيم هذا الاحتمال، فإقالة وزير الداخلية تكشف أن الشاهد يتقدم في الساحل على حساب الرئيس وابنه والشق التونسي من النداء.
ردة الفعل على إقالة الوزير كشفت اصطفافًا جديدًا
ردة الفعل على إقالة الوزير كشفت أن المراهنين عليه ليسوا فقط لوبي الساحل المالي والسياسي، بل إن اليسار التونسي (تيار الحداثة) كان يعتمد عليه لخوض حربهم الأبدية ضد حزب النهضة، نزل كثير من رموز اليسار إلى الشارع مطالبين بعودة الوزير إلى منصبه ناعتين الشاهد بأنه يشتغل لحساب النهضة، بل ذهب البعض إلى حد المطالبة بتمرد عسكري ضد الإقالة.
هذه الحركة كشفت أن الاصطفاف يتجدد لكن بتغيير المواقع، فالشاهد ابن النداء صار أقرب إلى النهضة بينما عاد اليسار إلى صف ابن الباجي الذي كان يحمله مسؤولية خراب المرحلة.
خرج المشهد تقريبًا من الاصطفاف السابق، الجميع ضد النهضة والنهضة تحارب وحدها من أجل وجودها الأدنى، إلى وضعية الشاهد وبعض الساحل مع النهضة ضد الرئيس واليسار والنقابة إلى أي حد يمكن أن يصمد تحالف الشاهد بما يضم من شقوق النداء والنهضة التي تغير لهجتها وتفرض بعض شروط اللعب في الطريق إلى 2019 الذي لن تخرج منه بلا مكاسب مهمة.
ورقة النهضة في هذه المرحلة هي موقعها المريح في البرلمان بالتوازي مع تشتت كتلة النداء مع الشاهد وضده بحيث سيكون تمرير حكومة جديدة كليًا في البرلمان أقرب إلى الاستحالة، خاصة أن بقية الكتل ليست متفقة على تغيير جذري للحكومة، أي أن تجميع 109 نواب بالمجلس لفرض حكومة جديدة أمر عسير إن لم نقل مستحيلاً، فالنقابة اليسارية التي تقف ضد الشاهد ومع ابن الرئيس ليس لها سلطة فعلية داخل البرلمان.
في الأثناء يعرف الرئيس العجوز أن الأمر أفلت من يده وقد تيقن من ذلك بعد قراءته لنتائج الانتخابات البلدية التي تراجع فيه حزبه وتشتت أمام تماسك النهضة وعودتها إلى موقع الفاعل الرئيسي وهو مضطر إلى تنازلات موجعة أمام النهضة (الغنوشي) للقبول ببقاء الشاهد والاكتفاء بتغيير بعض الحقائب في حدود ما يرضى به الغنوشي أيضًا.
في الأثناء أيضًا الموقف الدولي (الاتحاد الأوربي تحديدًا) لم يعد متحمسًا لتغيير جذري قد يؤدي إلى اضطراب لا يمكن ردعه يحول تونس إلى حالة ليبيا 2، لا يمكنه تحملها على حدوده، ويحتفظ الغنوشي بورقة مهمة هي أن الجزائر تعتبر النهضة جدار دفاع أول على حدودها الشرقية، وهي ورقة خسرها الباجي منذ بداية 2014 عندما جره مدير حملته إلى موقف معاد للجزائر لصالح الإمارات المعادية للاستقرار في المغرب العربي.
مشهد جديد يجعل الشاهد يتقدم نحو مستقبله السياسي ماسكًا بأوراق كثيرة يسحبها بحماس من الرئيس وابنه ومضحيًا فيها بعلاقته مع النقابة التي ظهرت منكسرة في آخر لقاء بين الرئيس والأمين العام للنقابة (الطبوبي)، إذ يبدو يقينًا أن النقابة خسرت دور الحكم بين القوى السياسية الذي مكن لها من لعب دور فعال في السنوات الأخيرة.
يوم السبت يتكلم الرئيس ويحسم
أكتب ليلة الجمعة (8-9) حزيران بعد ساعات سيتكلم الرئيس في اجتماع عام (لا نعرف من دعي له)، تسريبات كثيرة تقول بأنه سيكسر رقبة الشاهد ويمحق طموحه ومستقبله السياسي بينما يقول محللون آخرون أنه سيقبل المناورة مع الشاهد ويقايض مستقبل ابنه وأسرته ومصيره الشخصي كرئيس حريص على لقب باني الديمقراطية في تونس.
فالرئيس الآن في حالة دفاع خاصة بعد تصلب الغنوشي وخروجه بموقف رافض لتغيير رئيس الحكومة في هذه المرحلة، وهو ما جعل مستشاريه يقولون إن الغنوشي طعنهم في الظهر بموقفه الجديد.
ما الورقات الباقية بين يدي الرئيس؟ حزبه لم يعد يشكل ضمانة التصدي لحزب النهضة، بينما رفع حزب النهضة من رصيده لدى القوى الدولية كضامن للاستقرار بالبلد دون خطاب ثوري جذري بل بخطاب ليبرالي مهادن ينتظره الغرب من الجميع.
لم يعد للرئيس حزب متماسك يناور به ولم تعد النقابة تسعفه بشيء، فقد استنفدت صبر التونسيين عليها بما رفعته من مطالب غالبها سياسي ضمن حرب اليسار مع الإسلاميين وهي ليست أولوية عند الرئيس الذي يبحث عن حليف متماسك ولكن مطيع ويرضى بالقليل، وكل تصعيد مطلبي قادم يغضب القوى الدولية التي تدفع إلى لبرلة البلد.
هذا المشهد يرجح بقاء الشاهد في المشهد وإن غير بعض حقائب حكومته، وسيكون من مصلحته الدفع إلى إجراء انتخابات في موعدها، إذ ستكون له منها مكاسب شخصية لا تقل عن أحد منصبين في الدولة رئيس حكومة بصلاحيات كاملة أو رئيس دولة شاب قد يمكث فيها عشر سنوات.
سيفاوض بقوة مع حزب النهضة لكنه لن يستعيد حرب اليسار مع النهضة، فقد صار الاستئصال السياسي وراء التونسيين وسيحمل الاستئصاليون وزرهم معهم إلى نهايات وبيلة، إما إذا تمرد الرئيس على اللحظة وفتح حربًا على الشاهد فلا نراه قادرًا على الاستمرار فيها وسيدفع البلد إلى وضع قانوني وسياسي خطير منذر بخراب التجربة.
فليس للرئيس صلاحيات مطلقة في عزل الحكومة إلا عبر المرور بالبرلمان الذي لم يعد يملك زمامه وسيكون وأسرته أول ضحاياه، يعرف الشاهد هذه التخوفات لذلك يمعن في فتح طريقه إلى مجده الشخصي.