المشهد الدعائي والإعلامي خلال الانتخابات البلدية التونسية

Photo

سبع سنوات من ترذيل الثورة والتغيير والعبث بالسياسيين أشخاصًا وصورًا، رغم ذلك خرج الناس إلى صندوق الاقتراع وبذلوا جهدًا في الاختيار بعد متابعة واستخبار وقراءة، وهو ما يمكن اعتباره انتصارًا كبيرًا على المرذلين والمحقرين، بالتحديد على إعلام محترف معادٍ للثورة لا يستنكف عن الحنين إلى زمن بن علي الذي هرب.

ربحت الثورة جولة على إعلام بن علي (ممن يسميهم التونسيون أولاد الحجامة وهم الجوقة الإعلامية التي كانت تسبح بحمد زوجة بن علي) ومع اندحار هؤلاء لا يمكن أن يفوت الملاحظ أن فرزًا إعلاميًا آخر يجري بهدوء داخل الإعلام العمومي جسدته حيادية عالية في تغطية الحملة الانتخابية وتغطية يوم الاقتراع، وهذا عنصر جديد يؤذن بتحرر الإعلام العمومي خاصة، وبين الأمل والرجاء وخوف النكسات نقرأ المشهد الاتصالي عامة في الانتخابات البلدية التونسية (مايو 2018).

إعلام عمومي مهني تقريبًا

نقطة الضوء التي أود توسيعها (لو بمخالفة قواعد الكتابة المحايدة) هي ما لوحظ خلال الحملة الانتخابية، لقد منح الجميع أقدارًا زمنية متساوية من الدعاية الانتخابية في التلفزة العمومية والإذاعات، وكان مشهد المنشطين يحسبون الدقائق والثواني للمتدخلين كاريكاتوريًا، لكنه كان إيحاءً بأن لم تعد لأحد أفضلية في المرفق العمومي، أما نوعية الخطاب وبراعة المتدخلين (المرشحين) فليست موضوعًا للنقاش هنا.

كان يوم الانتخاب تحت تغطية شاملة من أكثر من 25 مراسلاً على المباشر وكانت التغطية وصفًا وتحليلاً دون توجيه للرأي العام أو تزلفًا لمنتصر أو شماتة في خاسر، هل بدأ الإعلام التونسي العمومي يحرر المرفق من المؤثرات غير الإعلامية، هذا في باب الأمل والرجاء وإن كنا نعتقد وبعض الظن ليس إثمًا أن تراجع المنظومة القديمة وتقدم فاعلين جدد في مقدمتهم حزب النهضة قد فتح بابًا لمراجعة المواقف تحسبًا لمستقبل تنتقل فيه السلطة إلى أيدٍ جديدة.

أولاد الحجامة حزانى

عشية فرز النتائج وظهور مؤشرات تقدم حزب النهضة أعلنت إذاعة موزاييك الخاصة وهي أكثر إذاعة مسموعة الحزن وتوقفت عن التغطية وبثت الأغاني الجنائزية، لقد خسرت رهانها على مواصلة الحرب على الإسلاميين، لقد عاشت هذه الإذاعة من تلك الحرب تمولها بالأكاذيب اليومية وتوجه خطوط التحرير في الإذاعات الخاصة، ولم تكن الجهة الإعلامية الوحيدة الخاسرة، فالإعلام الخاص في تونس له غرفة عملياته المعادية للثورة، هذا معلوم عند الناس، وقد أثبت ذلك خلال الانتخابات الأخيرة ولم يظهر أي توجه ذاتي من داخله لتعديل مهني احترافي.

ورغم أنه راهن على مرشحين محددين ودفع بهم إلى الواجهة، ورغم أنه رآهم يخسرون بل ينهزمون هزيمة نكراء (مقارنة بحجم ما منح لهم من مساحة إعلامية ممولة)، فإنه يصر على نهجه غير الاحترافي ويمعن في ترذيل النتيجة وتثبيط عزائم الناس، هذه نقطة مظلمة لا تزال تتربع في المشهد الإعلامي التونسي ولا تبدو في وارد التغيير.

لقد تخفف المشهد الإعلامي زمن الانتخابات كثيرًا من حضور قناتي الحوار ونسمة وهما قناتان تلفازيتان خاصتان قاطعتا تغطية الانتخابات لسبب يتعلق بالاستشهار والدعاية التجارية، ولكن مقاطعي التغطية عادوا إلى التحليل غير الاحترافي للنتائج حتى صار المنهزمون في الصندوق المنتصرين في التلفزة.

مشهد إعلامي خاص بائس لكنه يزداد بؤسًا لأنه مهما تعامى عن الحقيقة بدأ يكتشف أن السنوات السبعة من التثبيط و(تكسير الركب) لم تنتج المأمول، فما زال الناس مهتمين بالشأن العام وبالسياسة ويذهبون إلى صناديق الاقتراع، ونعتقد أن الحزن سينتقل إلى صف هؤلاء الإعلاميين ومؤسساتهم وسينقطع التمويل الأجنبي خاصة أن كثيرًا من المنتصرين في البلديات يعتزمون بعث إذاعات محلية على الموجات القصيرة.

الاتصال المباشر سحب البساط من تحت الإعلام التقليدي

الميزة الكبيرة للانتخابات البلدية هي الاتصال المباشر بالناس، لقد احترف التونسيون ذلك فكانت الممارسة تقريبًا تخصصًا عند حزب النهضة منذ انتخابات 2011 حيث غطى الخريطة بالفرق المتجولة التي تطرق كل باب وكان لذلك أثره خاصة على المترددين والأميين غير الملمين بتفاصيل المشهد السياسي في 2014، توسعت الممارسة وعمل الجميع بذلك في حدود قدراتهم، أما في 2018 فقد كان حجم الدعاية بالاتصال المباشر أهم من كل عمل اتصالي وإعلامي تقليدي.

طرق المترشحون وأنصارهم أبواب البيوت والشقق ومرروا الدعاية تحت الأبواب المغلقة واقتحموا على الناس سياراتهم ومقاهيهم وأسواقهم في مشاهد جديرة بديمقراطية عريقة، وكان هذا العمل بديلاً فعليًا على الاتصال الإعلامي التقليدي.

لقد خرج السياسيون من التلفزة وانقطع تقريبًا ذلك المشهد الذي كرسته الديكتاتورية السياسي الذي يتكلم من السماء والمتلقي القابع في الأرض السفلى يتلقى الأوامر بالانتخاب لا بالاختيار.

عملية الاتصال المباشر حررت الجميع وحررت عملية التواصل السياسي وكرست مبدأ ذهاب السياسي إلى المواطن لا إرغامه بالقدوم إلى الصندوق صاغرًا ذليلاً، إعلاميًا حدث انقلاب كبير، فالحديث عن بعد لم يعد مجديًا وهذا سيؤثر على مكانة الإعلام السمعي البصري كما تأثرت مكانة الصحافة المكتوبة فدخلت في النسيان والإفلاس أمام وسائل التواصل الجماهيري الافتراضية.

سيكون على الأحزاب السياسية أن تبني فرقًا للتواصل المباشر وتدرب منتسبيها على هذا الإعلام الجديد، فالديمقراطية المباشرة تبنى بالاتصال المباشر وهذه مشقة أخرى تنضاف إلى مشاق الأحزاب الصغرى والناشئة غير ذات الثقل الجماهيري بما يدفعها إلى بناء التحالفات أو إلى الانقراض، لقد تأسس إعلام جماهيري جديد نعتقد أنه سيتواصل حتى خارج الحملات الانتخابية.

تسييس السوشيال ميديا

حل الفيسبوك محل الإذاعة والتلفزة تقريبًا ويوشك أن يُنسي الناس وسائل الإعلام التقليدية كما أنساهم شراء الجريدة المكتوبة وقراءتها، لقد تراجع نشر الموسيقى والنكت وقت الحملة الانتخابية لصالح نشر البيانات السياسية وصور المرشحين وتحركاتهم واجتهد أنصارهم في التسويق لهم فأقحموهم غرف نوم القاعدة الناخبة، ليس هذا جديدًا في تونس ولكنه تكرس أكثر في الانتخابات البلدية الأخيرة.

لقد تغير المشهد الاتصالي في 2018 وتكرست الممارسات الجديدة القائمة على الاتصال المباشر وتراجعت الممارسات التقليدية ودخلنا عصرًا إعلاميًا آخر يقوم على التبسيط والتقريب بلغة شعبية لا تعاني الانشغال بقواعد النحو وترفض التفاصح على العامة وهذا باب آخر للحديث عن مصير اللغة وقواعدها كما تكرسها المدرسة.

مصير اللغة مشغل آخر في الاتصال الجماهيري يجب أن ينشغل به المختصون إذ يبدو أن الاكاديميا ستتأخر كثيرًا أمام اختيار السهولة وهي جوهر النفعية الاتصالية الحديثة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات