نستعير التسمية المجازية من قيدنز لنبحث عن احتمال تشكل طريق سياسي ثالث في تونس بين حزب النداء أو ما يمكن أن يخرج منه بعد أزمته العميقة القائمة بين ابن الرئيس ورئيس الحكومة يوسف الشاهد وحزب النهضة المصنف بعد من أحزاب الإسلام السياسي.
الساحة السياسية تنتظر فتح هذا الطريق من مكونات تستنكف أن تكون مع أحد الحزبين المذكورين وترفض كل عمل مشترك معها مهما كانت الظرفية السياسية التي يمر بها البلد، وغياب هذا المكون المعدل يترك مساحة فعل واسعة للحزبين المذكورين ولكنه يفتح أيضًا على عطالة سياسية نوعية لن تسمح للديمقراطية التونسية بميلاد سليم.
سننظر هنا في المكونات المحتملة لهذا التيار/الطريق الثالث ونبحث في عوائق تشكله وأفق البناء الديمقراطي من دونه.
مكونات التيار الثالث المحتملة
ينبني هذا التيار من كل معادٍ أو مخالف لحزبي النداء والنهضة، فهو يعرف نفسه أولاً بمعاداة الحزبين ثم يفترق في غير ذلك، وهذا الكم كبير ولكنه غير متجانس بالمرة في مكوناته ورغباته (برامجه المعلنة)؛ لذلك أقول تيارًا من قبيل المجاز أو التمني، وقد وجب أن اعتذر هنا لقارئ محتمل عن جهلي بأسماء الأحزاب السياسية التي فرخت بعد الثورة كحوانيت بيع الملابس القديمة، لذلك سأكتفي بعرض القوى السياسية الظاهرة في المشهد وشاركت في الانتخابات التشريعية 2014 والبلدية 2018 وفازت ببعض المكاسب/المواقع.
1. الجبهة الشعبية
أذكر في مقدمة هذه القوى (دون قياس يقيني للحجم الفعلي في الشارع) الجبهة الشعبية، وهي مظلة واسعة لقوى اليسار الحركي اختلافًا عن اليسار الثقافي، وفي مقدمتها حزب العمال (حزب العمال الشيوعي سابقًا) وحزب الوطد الموحد (الوطنيون الديمقراطيون وهم فصائل عدة) وأحزاب البعث العراقي، فضلاً عن حزب التيار الشعبي العروبي (مجموعة الحاج البراهمي)، كما تضم شخصيات يسارية مستقلة عن التنظيمات الحزبية.
تخلو الجبهة من شخصية جامعة ولا يحظى حمة الهمامي بوزن كبير وتنازعه شخصيات أخرى الزعامة وهناك معركة داخلية مؤجلة في الجبهة عمن يكون الزعيم، ولكن تمسك الجبهة مكوناتها بالتخويف الدائم من اجتياح الحزب الإسلامي للساحة، وهو خطاب يتغذى باستعادة أطروحة تحتكر الوطنية والتقدمية والاشتراكية والثورية في مواضع الخطاب الثوري.
تظهر دعوات كثيرة من داخل اليسار ومن حول الجبهة لتتحول الجبهة إلى مكان لقاء لقوى اجتماعية كثيرة لكن الجبهة لا تفلح في ذلك، لأنها تضع الانتماء الأيديولوجي قبل الانتماء الوطني وتبني تحالفاتها على نفس الأسس، لذلك فهي تعادي على سبيل المثال منصف المرزوقي لأنه تحالف ذات يوم مع خصمهم الأيديولوجي حزب النهضة، ولم يغفر له أنه ابتعد عنها فكأنه كفر والجبهة لا تقبل التوبة.
2. حزب التيار الديمقراطي
حزب ناشئ يعيش هذه الأيام سعادة غامرة، إذ يحسب مكاسبه من الانتخابات البلدية فيجدها وفيرة فيمعن في خطه السياسي المستقل عن الجميع، يعارض الحزب التوافق الحاكم وتنطلق منه إشارات غزل نحو الجبهة الشعبية لكن نعتقد أنه يريد احتواء الجبهة لا الذوبان فيها فهو أصغر منها سنًا وفاز بأكثر منها وهو يقرأ ذلك كمؤشر قوة يجمّع به حوله فلا يجتمع من الآخرين كما أن الحزب يستعمل كثيرًا من شعارات الجبهة وينافسها على الديمقراطية الاجتماعية التي تبنى في كنف السيادة والاستقلال.
3. فلول الرئيس المرزوقي
أعني هنا الكيانات التي تناسلت من حزب المؤتمر ولم تفلح في بناء كيان بديل كما خطط له بعد انتخابات 2014، كان التيار الديمقراطي (حزب عبو) أحدها لكنه ابتعد كثيرًا ليبقى في المشهد حزب الحراك وحركة وفاء وبقية مرابطة على اسم المؤتمر وتخوض معركة قضائية لإثبات حقها في الاسم والشعارات.
تجتمع حركة وفاء حول شخص المحامي عبد الرؤوف العيادي وهو رجل وطني ومناضل محترم لكنه لا يتحول إلى زعيم سياسي لأسباب مادية ولحرص بالغ على التطهر الثوري تجعل خطابه غير واقعي رغم نبرة الصدق الواضحة، وليس للحزب أسماء أخرى وازنة يسمع صوتها خارج مكتب المحامي وهو أيضًا مقر الحزب.
أما حزب الحراك فهو التجسيد الحي لحالة فشل الرئيس المرزوقي في بناء التنظيمات الحزبية والسياسية، يمتلك الرئيس المرزوقي شروطًا مهمة للقيادة منها إنتاج الأفكار الكبيرة المجمعة لأطياف واسعة ومختلفة وأمانته ونظافة يده وترفعه عن صغائر التكسب المادي بالسياسة، ولكن ذاك لا يترادف مع حس بناء التنظيمات؛ لذلك ولدت فكرة الحراك كبيرة ثم صغرت إلى حزيب يعيش من اسم المرزوقي وتاريخه ولا يرد للمرزوقي سببًا للبقاء في الحياة السياسية.
4. حركة الشعب (التيار القومي عامة)
الاسم الأبرز في التيار القومي العربي في تونس حتى الآن هو حزب حركة الشعب الوحودية، فهناك أسماء تنظيمات أخرى كثيرة منها الموالية لفكر الكتاب الأخضر وتوشك كل مجموعة قومية في قرية أن تبني تنظيمها الخاص وهي فرق متصارعة على تملك الفكر القومي.
لذلك فإن عداء بعض مكوناتها لحركة الشعب أقوى من عدائها لغيرها، ورغم أن حركة الشعب تلتقي (ثلاث نواب) مع الجبهة الشعبية ضمن الكتلة الديمقراطية في البرلمان إلا أنها لا تنصهر فيها لأسباب أيديولوجية فقادة حركة الشعب يشاهدون أحيانًا خارجين من المساجد، أما نقطة اللقاء الوحيدة الممكنة مع الجبهة فهي معاداة حزب الإسلام السياسي والتطهر منه، وغيظًا في النهضة (سليلة حركة الإخوان) فإنهم يقفون في صف بشار باسم ممانعة لا يدقها غيرهم.
5. أحزاب ألجي مايل أو أحزاب المقاهي
هي مجموعات صغيرة من أفراد طموحين أو طماعين اجتمعت في موجة الحرية الأولى التي حملتها الثورة ثم تلاشت بعد لحظة الزهو وبقيت بعض الأسماء التي لا نسمع صوتها إلا إذا حظي مؤسسها بظهور تليفزيوني بالصدفة؛ لذلك لا يمكن اعتبارها مكونات سياسية في مشهد متحرك، إنها أحزاب لها عناوين بريد إلكتروني لا تدفع لها معاليم ضريبية وتجتمع بمقاه وتسجل عيوب الأحزاب الحاكمة وتختم عادة بأن البلد ذاهب للهلاك، ولعل أصدقها من حل نفسه قانونًا والتحق بغيره.
عوائق التشكل
العرض السابق لمح إلى بعضها ولكننا نلخصها هنا في نقاط واضحة ومختصرة.
- التكلس الأيديولوجي الذي يطبع أحزاب اليسار بكل أطيافها والأحزاب أو المجموعات القومية، ولا نرى أي علامة مراجعة أو نقد ذاتي بل مغالاة وهروب إلى الإمام.
- الفقر المادي الجامع لكل هذه المجموعات، لا تفلح هذه الأحزاب الصغيرة في إثارة طمع متنفذين ماليين يمولونها وإن كثرت الإشاعات عن الجبهة الشعبية خاصة، فحملة حمة الهمامي الرئاسية أنفقت بسخاء لا تملكه الجبهة العاجزة على فتح مقراتها في المدن الكبرى فضلاً عن الجهات، ولا يبدو منتموها من السخاء بحيث ينفقون من أجل الحزب كما يفعل أنصار الحزب الإسلامي، وتعتبر حملة حمة الانتخابية طعنة عميقة في خطاب التعفف الثوري الذي تزايد به على الخونة (عملاء قطر وتركيا).
- الزعاماتية المزمنة التي يعيش بها كل من ترأس حزبه أو جبهته وعجزهم التام عن التداول الديمقراطي في داخل أحزابهم، فهم التجسيد الحي لقول المعري إنما هذه الأحزاب أسباب لجلب الدنيا إلى الرؤساء.
- ضعف هذه المكونات لا تجعل أي جهة خارجية تراهن عليها أو تعقد معها صفقات سياسية ورغم أن هذا يعتبر من الشرف السياسي في بلدان مهمين عليها، فذلك ليس وجه التعاون الوحيد، إن بلدًا مثل الجزائر يهمه وضع الاستقرار في تونس لا يجد في هؤلاء حليفًا يعتمد عليه، وما كل حلف خيانة وهذا زمن الأحلاف وليس زمن أنور خوجة.
المشهد السياسي بحزبين متشابهين
لا شيء يؤشر على قرب تشكل هذه المجموعات في كتلة سياسية واحدة، تسمح لها بدور تعديلي، بين حزبي النداء والنهضة، ونقرأ عن حسابات ونوايا قصيرة النظر من قبل أن كل فلول النداء إذا تفكك ستنتمي إلى مكون من هذه المكونات والعين هنا طبعًا على أصحاب المال أكثر من القواعد الناخبة.
هناك رهان لم ينقطع منذ بدء الثورة على الاستيلاء على قواعد النداء (المنظومة السابقة) أو ما كان يسميهم السيد نجيب الشابي التجمعيين النظاف، بل إن عداء كثير من مكونات التيار الثالث الافتراضي (الذي أبحث عنه ولا أجده) لحزب النداء هو أنه أجّل الاستيلاء على هذه القواعد وعلى ثرواتها المفيدة، فهم يتعاملون معها كما لو أنها قطيع فقد راعيه، وليس له سلطة على وعيه واختياراته.
لا يبدو النداء في وارد التفكك السريع وإن غير اسمه أو قيادته، إن قوته الآن في خوفه من الاندثار حتى إن الأب المؤسس يضحي الآن بطموح ابنه من أجل بقاء الحزب ولذلك سيبقى غريزيًا وستبقى كتلة المال الكبيرة تموله وتحتمي به من أن تكون مرؤوسة من حزب النهضة، بما يثبت المشهد السياسي على حزبين كبيرين لكن لا يختلفان كثيرًا في طرحهما الليبرالي.
سنطرح السؤال مرة أخرى: أين الطريق الثالث أو الكتلة الثالثة المعدلة؟
بالنظر إلى ما هو متاح من معلومات ومن هو مشاهد من أفعال عقب الانتخابات البلدية التي أكدت قوة الحزبين وبقائهما فإن مكونات الطريق الثالث ذاهبة إلى الاندثار والتلاشي.
لقد عاشت الجبهة الشعبية من قوة النقابة حتى الآن، لأنها سيطرت على مفاصلها ووظفتها ضد الترويكا وضد التوافق حتى لم تترك لها أي مصداقية نضالية أو قبول شعبي، لقد صار الاتحاد اليوم مرادفًا للتخريب النقابي وهو ما يخرجه بسرعة من عناصر التأثير السياسي على المشهد ويعيده إلى حجمه زمن بن علي كإمضاء يبرر الزيادات الدورية بعد فرضها من السلطة، وعندما تفقد الجبهة واليسار النقابي الاتحاد فإنه لن يبقى لها إلا سب الجلالة في الحانات إذا ظهر وجه نهضوي في التلفزة.
أما التيار الديمقراطي فسجن نفسه في ربوة الطهورية الثورية للحركة الطلابية التي كانت السيدة سامية عبو وزوجها من قيادتها، وعدم وضع اليد مع النهضة والنداء في البلديات، لا يبق لهذه اليد فائدة ولن يسمح للناس برؤيتها تعمل والحكم لها ولأفكارها.
وعندما يخرج الحزب من أساليب النضال الطلابي الرومانسية سيكون الواقع قد تغير من حوله، وسيكون حزب النهضة بالتحديد أقوى مما هو عليه بحيث يزيد التيار في تعففه السياسي ورب تعفف جبان يخفف الأوزان.
هل سيتسلسم المجتمع السياسي لهذه الحالة المشلولة؟
لا أعتقد ذلك، فالحراك الثقافي والسياسي ما زال في بدايته وبعد كل انتخابات يعاد تشكيل الصورة، فإذا وصلنا إلى انتخابات 2019 بسلام فإن ما بعدها لن يكون كما قبلها ستندثر أسماء كثيرة وكبيرة وربما سننتظر حينها ميلاد الطريق الثالث.