يزعم التونسيون أنهم عاشوا خارج الانقسام المذهبي المهيمن في الشرق العربي، فهم سنّة موحدون حول المذهب المالكي، ويُفرطون في تمجيد نجاحهم السياسي بعد الربيع العربي، قائلين إن الصفاء المذهبي كان عاملاً حاسماً في نجاحهم. لكن، هل هم ناجحون فعلاً وموحدون فعلاً؟
أميل إلى الاعتقاد أن القول بالنقاء المذهبي في تونس هو جزء من أيديولوجيا سياسية، تحاول إخفاء أيديولوجيات أخرى، أشدّ تأثيراً، وتكشف انقساماً حقيقياً فعالاً وحاسماً يشق التونسيين، ويتظاهرون بإخفائه كالعاهة المستديمة، وهو خلاف لا يستند إلى خلاف مذهبي (سنّة ضد شيعة)، بل هو أعمق من انقسام بلدان الشرق العربي بين المذاهب، ويتجاوز، في تأثيره، كل خلاف مذهبي أو عرقي محتمل.
إنه القطيعة العميقة والمستفحلة بين تيار التأصيل الهوياتي وتيار التحديث، والذي يمكن العودة به إلى أول القرن العشرين. ويمكن، بشيء من التدقيق، إرجاع بذرته إلى الاستعمار الفرنسي. وأعتقد جازماً أنه سيقود إلى انفجار سياسي وشيك، وسيسيّل دماءً يحاول كثيرون تفاديها.
ترهقنا، في لحظة الكتابة، العودة الصافية إلى الخلاف البورقيبي الثعالبي. على الرغم من أن التيارين زعما التأصيل في هوية تونسيةٍ عربيةٍ إسلامية. لكن نموذج المجتمع الفرنسي، أو التحديث طبقا للنموذج الفرنسي، كان يتسرّب بنجاعةٍ داخل الأسر والبيوت التونسية. عادت النخبة التونسية التي درست في فرنسا إلى تونس فرنسية الهوى والروح. وكان للحزب الشيوعي التونسي (فرع الحزب الشيوعي الفرنسي المعارض للاستقلال) دور مهم في بث الشكوك في قدرة هويةٍ عربيةٍ إسلاميةٍ على البقاء والنجاح. كانت معركة الاستقلال عن فرنسا معركة هوية أيضاً، فلما انتصر الشق البورقيبي، بدعم فرنسي يحاول بعضهم تمويهه والقفز فوقه، مكّن للفرنسة والتغريب.
ردة الفعل الهوياتية العروبية في الستينيات، تحت تأثير الناصرية المنتصرة في الشرق، أيقظت الوعي بعروبة البلد، لكنها كسرت وقمعت، ثم جاءت الإسلامية الزاحفة من أسفل، فأعادت النقاش إلى بدايته، لكنها لم تنتصر، بل تحولت إلى معسكر. أمكن قمعها سنوات طويلة، لكنها استحكمت بقدر القمع المسلط عليها. وبعد الثورة، اتضح المعسكران (الفسطاطان) والتنافي بينهما الآن سجال حول مؤسسات الدولة، ومشروعها الذي يتأخر ويرتكس إلى حربٍ لا ينقصها إلا السلاح، ولعل بعض ردهات الإرهاب هي بعض هذه الحرب التي لم تصل إلى مداها، كما قلت أعلاه، من جبن لا من حرص على الوطن.
كانت الغلبة قبل الثورة لتيار التحديث على تيار التأصيل، وتيار التحديث نفسه مقسم إلى شقوق كثيرة، بعضها سياسي، وأغلبها ثقافي. فتجفيف منابع التدين في التعليم العام، والذي جاء بمثابة استكمالٍ لإغلاق جامع الزيتونة، والتعليم الديني عموماً، قام به شق اليسار الثقافي الفرانكفوني. كان عملا يستقوي بالدولة، لقطع دابر خصم سياسي وإيديولوجي حامل مشروع ثقافي مختلف.
بعد الثورة وعودة تيار التأصيل، ممثلاً خصوصاً في حزب النهضة (المصنف ضمن طيف الإسلام السياسي) اندلعت حرب التنافي من جديد. وكانت أزماتٌ كثيرة مصطنعة ضمن هذا السياق. يكفي أن تثار مسألة الحجاب في الإدارة، فيتم الهجوم على تيار التأصيل باعتباره ظلاميةً ورجعيةً، أو تتعرّى فتاة في الشارع أو في حلبة رياضة ليتم الهجوم على التحديث باعتباره تفسخاً.
حكم هذا الصراع على انتخابات 2011 و 2014، وأفرز حكوماتٍ هشّة، لا تفلح في حل أيٍّ من معضلات البلد الاجتماعية والاقتصادية، والمثيرات سخيفة ومصطنعة وتستعمل من التيارين، لحرف مسار الثورة عن أهدافه. بلغ الأمر بتيار التحديث أن سير مسيرات لمنع قتل البلديات الكلاب الضالة، في حين يقبع ضحايا التلفيق الأمني من الإسلاميين في السجون بعد. ولا يبدو أن هناك صلحاً في الأفق، يمكن أن يصرف العمل الحكومي، والسياسي عامة، إلى حل هذه المعضلات، فالتياران يرتزقان سياسياً من هذا الصراع، ويستقطبان جمهورهما على أساسه. والسؤال عن نهاية هذا الصراع هو كالسؤال عن ميعاد يوم القيامة، ليس له جواب إلا عند خالقه.
إذن، لماذا يستمر حديث السياسيين عن التوافق، ما دام الصراع بين مكونات الساحة السياسية والثقافية بهذا العمق والحدّة؟ بعض الإجابة موجود في الضغوط الدولية على النخبة السياسية، لكيلا تدخل في طريق ألاحتراب فالمنطقة برمتها على كف عفريت، من ليبيا إلى عمق الصحراء الأفريقية. فضلا عن مصر والشرق العربي مزيد من تفجير الحروب في بؤر أخرى، قد يخرج عن السيطرة (مركب الهجرة السرية وحدها تشكّل رعباً أسود لبلدان الجوار الأوروبي)، وبعضها الآخر كما أسلفت هو العجز عن الحرب المباشرة، ومواصلتها بأسلحة التنافي السياسي الذي، وإن لم يكن نتاج الحرب، إلا أنه يضيع البلد والناس، وينتهي عملياً حيث تنتهي الحرب، أي تخريب المستقبل.
مستقبل تونس الآن مرهون بحل هذا الصراع. ويقتضي نجاح الانتقال الديمقراطي فيها فصد هذا الدمل. لكن ذلك لا يبدو احتمالاً وارداً الآن وهنا. فالمتمعشون منه أكثر من يفوتون فرصة التموقعات، والمغانم التي يرونها دائمة، ولا ينتبهون إلى أنها أبنية هشّة قد يعصف بها انفجار عنيف، يقع خارج القواعد السياسية المنضبة للصراع، والذي تديره بحماس في المواقع الاجتماعية، وفي الإعلام بمختلف وسائله (قبل الخروج إلى الحرب).
وقد عاين الناس نتيجة هذا الصراع منذ عقود، وانصرف كثيرون عن الشأن العام، لأنهم عجزوا دون إجبار الخصمين على سلام الشجعان حول طاولة تفاوضٍ تاريخيةٍ تحل الإشكالات الفكرية، وتضع قواعد تعايش ديمقراطي دائم ومنتج. ولقد مر من الوقت ما يكفي ليشرع أحدهم في المراجعة من الداخل. ولنجد لديه بوادر تجاوز الخلاف، ونأمل خيراً ألا تقوم الحرب ولكن.
كان الرئيس المنصف المرزوقي يمثل شخصاً وتياراً فكرياً وسياسياً، وقف خارج هذا الصراع. لذلك تم إقصاؤه بشكل حاسم من طرفيه (فيما يشبه عملية قطع طريق ممنهجة)، لأن موقفه كان يحرم طرفي الصراع من غنائم الاستقطاب الثنائي، ويؤسّس لاحتمال وجود خارجه، ولو تم له دفع المسائل الخلافية إلى التجلي، لأخذ من قواعد الطرفين الكثير، وتجاوز المعركة الاستقطابية المؤلمة، لمسار الثورة ولمشروعها في البناء على قواعد مختلفة، وأعتقد أن مصيره السياسي يهدّد كل من يفكر في كسر الاستقطاب.
هل ننفض أيدينا من الحل التونسي، ونعيد العبقرية التونسية إلى حجمها الطبيعي، ونتوقف عن ترويج وهم التوافقات المغشوشة؟ قد تكون الإجابة الصريحة بلا قاسية على طيبين كثيرين. ولكن، ما هي حظوظ لقاء تصالحي على قاعدة العيش المشترك المنظم سياسياً، من دون أسلحة مخفية تحت الجبة؟ أراها صفراً، فالتوافقات التونسية مغشوشة، لأنها لم تعالج أصول الفرقة الحقيقية بين مشروعين يرفضان التعايش. تأجيل الحرب لا يعني بالضرورة إلغاء أسبابها، بل لعل العكس هو الأقرب إلى قوانين الاجتماع. لكني، على الرغم من ذلك، سأنتظر معجزةً، لأن الواقفين مثلي خارج دوائر الاستقطاب سيكونون أول الضحايا.
تحتاج تونس سلام الشجعان، للشروع في بناء مستقبل مغروسٍ في ماضيه، ومنفتح على أفق كوني. واليسار والإسلاميون معنيون وحدهم بهذه المهمة التأسيسية.