"خسة" أرستقراطية في تونس!

Photo

كم بودي أن تكون الحادثة فردية، لكن وقائع كثيرة تتجمع في نفس السياق لتكشف جانبا مهما من اضطراب أخلاق التعايش الاجتماعي في تونس.

وبين مكونات شعب يزعم التجانس العقائدي والعرقي ويفتخر بذلك على بلدان المشرق العربي.

نزلت عاصفة ثلجية بمنطقة الشمال الغربي التونسي (عين دراهم 1200 متر فوق سطح البحر) فسارع سكان المدن المرفهين إلى المنطقة للتمتع بمشاهد الثلج، لكن اشتداد العاصفة ألزمهم بالبقاء لتعطل الطرقات، فقام المسؤولون المحليون بفتح مبيتات التلاميذ الذين خرجوا في عطل مدرسية وآووا السياح العالقين، لكن المسؤولون فوجئوا بأن "السائحين" استولوا على أغطية التلاميذ وتركوهم للبرد بعد عودتهم من العطلة.

علما أن العدد الأكبر من العالقين قد استقبلهم الأهالي في بيوتهم الجبلية الفقيرة ومكنوهم من المبيت والغذاء والدفء الكافي لحين تدخل الأجهزة وإعادة فتح الطرقات وعودتهم سالمين غانمين الكثير من صور السلفي والذكريات، ولكن البعض ترك ذكرى سيئة تحير التحليل. الفقراء الكرماء و"الارستقراطيين" اللصوص. فكيف نقرأ سلوكيات من هذا القبيل.

فمنذ انطلاق الثورة سنة 2011 يمكن وضع قياس لتحليل سلوك الطبقات الاجتماعية وتبين اختلافه. فأهمّ الاحتجاجات المطلبية قامت بها الفئات المتوسطة وقد كان أول إضراب احتجاجي في شهر فبراير 2011 هو احتجاج مضيفات الطيران اللاتي طالبن بزيادة مجحفة وعطلن الطيران الوطني مرات كثيرة من أجل الزيادة. ثم توالت الاحتجاجات المطلبية وكنا نجد نفس الفئات من قطاعات مختلفة هي التي تحرض وتعطل ثم تقبض وتعيد الاحتجاج.

في مقابل ذلك نذكّر بأن الثورة نفسها انطلقت من مناطق التهميش الاجتماعي والفقر وكانت مطالبها سياسية أكثر منها مادية فئوية وقطاعية. فلما استلمت الفئات الوسطى الاحتجاج سقطت المطالب السياسية وتقدمت المطالب الاجتماعية الحريصة على الترقي الاجتماعي وكانت كل استجابة للمطالب تتم على حساب الفئات الأكثر تهميشا وقد شاركت نقابة الطبقة الوسطى في ذلك بشكل فعال.

لقد كان للنقابة مطالبها السياسية فهي نقابة يملكها اليسار ويوجه فعلها الاحتجاجي لغاية إسقاط الخصم السياسي (الاسلامي) الذي مكنته انتخابات 2011 من السلطة ولكن مقدار استجابة الفئات الاجتماعية الوسطى كشف أن النقابة نفسها أسيرة لهذه الفئة فكثير من الإضرابات تجاوزت قدرة النقابة على الضبط والتوجيه.

النتيجة الحاصلة أن الفئة الوسطى هي التي استفادت ماديا من مناخ الاحتجاج والحريات وكانت مطالبها دوما عن مطالب الثورة في إعادة بناء الاقتصاد على أسس اجتماعية تشاركية.

ولا يزال الاحتجاج الاجتماعي بعد خمس سنوات من الثورة يتم داخل هذا الاختلاف ففي الوقت الذي تتحرك مناطق فقيرة في الوسط والجنوب من أجل مطالب تنموية شاملة غير فئوية نجد إضرابات المدن الكبرى تقودها نقابات قطاعية مثل نقابة أطباء الاختصاص ونقابة المحامين،تركز على التحرر من الأعباء الضريبية والإعفاءات المادية.

يتضح المشهد أكثر أمام التحليل عندما نتذكر المد التضامني مع الثورة الليبية فقد انتقل حوالي المليون بشر من ليبيا إلى تونس إبان انطلاق ثورة 17 فبراير ووجد هؤلاء المأوى والرعاية لدى فقراء الجنوب والوسط خاصة. وشارك في التضامن فقراء من الشمال جلبوا أسرا ليبية كاملة وأسكنوها لأكثر من سنة في حين لم نر الضيوف الليبيين في المدن خاصة في الأحياء الراقية حيث تسكن الطبقة الوسطى بل رأيناهم في الأحياء الشعبية الفقيرة.

للأسف الشديد في خضم الثورة والتحركات المتسارعة أفلتت الكثير من المعلومات الكمية والاحصائية من يد البحث لنحدد بدقة مَنْ تكفل بمَنْ؟

هذه الصورة تسهل علينا فهم ما جرى في جبال "عين دراهم" فالفقراء هناك فتحوا بيوتهم للذين لديهم قدرة على ممارسة السياحة فلم يراعوا في مضيفيهم أخلاق الضيافة ولم يردوا الفضل لأهله؛ لكنهم قدموا الصورة الأبشع بالاستيلاء على أغطية التلاميذ (أبناء الفقراء) من مبيتاتهم.

لقد كانت المدرسة التونسية هي السلم الاجتماعي الأكثر فعالية في خلق الطبقة الوسطى التونسية عبر مسار البناء الوطني. فالمكونات الغالبة لهذه الطبقة خريجة المدرسة التونسية منها حصلت الوظائف الراقية والرواتب العالية والموقع الاجتماعي المرفه فضلا عن المهن الحرة؛ لكن يبدو أن المدرسة التي مهدت للرقي الاجتماعي لم تتكفل بالرقي الأخلاقي لهذه الفئات فخرّجت طبقة من الأنانيين الموغلين في البحث عن مكاسبهم الشخصية فكانت تضامناتهم وتحركاتهم فئوية قطاعية بعيدة كل البعد عن الإيمان بالتشارك في الوطن والعمل على رقيه الجماعي. بما يجعلنا نستنتج و بكثير من الحذر أن الرقي الاجتماعي يسير بالتضاد مع الرقي الأخلاقي ونصل إلى صورة مجتمع مفكك يستولي فيه الأقوى تنظيما (بحكم التعليم ومعرفة سبل التنظم والاحتجاج والضغط) على الفائدة الأكبر ولا يهتم أن يترك خلفه أو تحته فئات اجتماعية تزداد فقرا وتهميشا.

وهو ما يعيدنا إلى نقطة بداية تأسيسية ماذا تعلم المدرسة التونسية للتونسيين الذين يدخلونها؟ وما مستقبل المشروع الوطني إن كان يجوز لنا بعد الحديث عن مشروع وطني جامع وموحد؟ إن مثل هذه السلوكيات تكشف خيبة كبيرة في المدرسة التي لا تعلم أبناء الوطن الوطنية.

ولكن ماذا يبقى بيد الفقراء من سلاح إذا كان فقرهم يعجزهم عن التجمع الفئوي والاحتجاج وحصد المكاسب؟ هل علينا أن نقرأ كرمهم وعطاءهم كوسيلة أخيرة يتوسلون بها الاندماج مع فئات لا تراهم إلا غنيمة يمكن الاستلاء عليها واستخدماها كمصدر لليد العاملة الرخيصة في البناء والخدمة المنزلية..

يخيل للمرء أنه يسمع الفقراء يصرخون وهم يفتحون بيوتهم لإيواء الأغنياء ويظهرون لهم الكرم وحسن الضيافة "أيها الإخوة في الوطن نحن أيضا أبناء هذا الوطن ولنا فيه حق مثلكم فلا تتخذونا محطة سياحية عابرة كلما نزل الثلج بربوعنا".

أي نبل في تلك الصرخة الفقيرة وأي خسة ارستقراطية قابلتها؟.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات