أبناء القديمة يناورن بعد أن يغلّقوا الأبواب ويقدوا أقمصتنا قدًا، يريدوننا عراة حفاة وشعورنا منتوفة كفراخ البط، القديمة اختصار للمنظومة القديمة، وأبناؤها أبناء النظام القديم، فأبناء القديمة لا يرحمون البلد وكلما أغلقنا بابًا للشر فتحوا عشرة أخرى.
نحن نعاني لإنقاذ ثورة لطيفة لم تذبح أعداءها ولا تريد، قال قائلنا بصوت طيب اذهبوا فأنتم الطلقاء، لكنهم لم يذهبوا والتفوا كثعابين الأناكوندا على رقابنا ونحن الآن نبحث عن الهواء في محكمة دستورية نقتسمها معهم حتى تكون، وفي انتخابات بلدية نترك لهم منها قسط الأسد حتى تكون، ونغض الطرف عن أموالنا المنهوبة حتى نحفظ القادم من رزقنا من رحم الغيب، لكنهم لا يشبعون من لحمنا.
يتنظمون في نقابات مسلحة ويحاصرون المحاكم بسلاح الدولة ويسرقون مستقبل أبنائنا بنقابتنا والمثير للسخرية السوداء أن ذلك يتم باسم الثورة التي هزت أمهم القديمة.
الغدر الدستوري
هكذا كان أجل أبناء القديمة انتخاب المحكمة الدستورية المؤسسة بمقتضى الدستور الجديد، أربع سنوات من الذرائع الواهية لكي لا تكون، لكنهم بالصبر وصلوا إلى الانتخاب، ففي الانتخاب يملكون أن يقسموا لكنهم يريدون محكمة على هواهم، 145 صوتًا في البرلمان لكي يقبل عضو بالمحكمة لا يملك الطيف الوطني مجتمعًا هذا الكم، لذلك خضع لمبدأ التوافق البغيض، فالطيف الوطني قبل التقاسم اتفقوا مع أبناء القديمة على تصعيد رجل وطني مقابل تصعيد مرشحيهم الثلاث (لجنة التوافقات في البرلمان هي لجنة الخضوع المر للكم البرلماني) ومر الجميع إلى الانتخاب فصعّد أبناء القديمة مرشحتهم وخذلوا مرشح الصف الوطني بكل وقاحة الغدر الذي حكم سياستهم مع الثورة ومع الشعب قبل الثورة.
الأسبوع الثاني من شهر مارس هو أسبوع الذهول الشعبي من الوقاحة الندائية وأطرافها التي تلعب على المكشوف بلا أدنى درجة من حياء أو حشمة، معتمدة على ثمرة التصويت المفيد التي ألفوا بها أغلبية برلمانية، مخوفين الناس من حزب النهضة الإسلامي.
لقد وضعوا الطرف الوطني في البرلمان أمام خيار وحيد أن تكون المحكمة لهم أولا تكون، وهذا الصف الأقلي في البرلمان وأنصاره في الشارع يرون ولا يقدرون على شيء مما كسبوا، فإما أن تكون لنا محكمة دستورية بيد القديمة أو نبقى دون محكمة، وهو الخيار الذي يريدون؛ ليفعلوا بالقوانين ما يحبون، فلجنة مراقبة دستورية القوانين المؤقتة التي تقوم الآن مقام المحكمة الدستورية بيدهم ولن يفرطوا فيها حتى يضعوا محكمة دستورية على هواهم، فنحن نشهد حالة من الغدر الدستوري ستؤرخ لفصل من مناورات القديمة بالثورة وأهلها.
ليس للثورة إلا الصبر على دورة أولى للمحكمة حتى يحين أوان تغيير الأغلبية في البرلمان ولكن بمن؟ فالصف الوطني (وهي تسمية متفائلة لكتلة لا وجود لها حقيقة إلا في هذا الملف اليتيم) ما زلت تشتغل عند القديمة وتقتسم معها نكاية في بعضها البعض.
أبناء الجديدة لا يحبون أمهم الثورة
أبناء القديمة يعرفون ذلك ويبتهجون، فأبناء الثورة ليسوا على قلب رجل واحد وقد دخل أبناء القديمة بينهم وشتتوا شملهم وما زالوا يفعلون، إنما هو لقاء وحيد لو تم التزامه لكان من القديمة ما يكون من الجثة التي تتحلل في الشمس.
أبناء الثورة لا يرتقون إلى اختبار قوتهم في المواجهة القانونية ولا في الشارع، فأجمل خدمة قدمت للمنظومة القديمة هي تشتت الذين الفتوا ذات يوم في القصبة واحد واثنين، قبل ذلك كان هناك اجتماع آخر يمثل المحامي اليساري العياشي الهمامي أحد رموزه بل رمزه الأجدر بالتقدير، إنه تحالف 18 من أكتوبر 2005، يوم التقت الجموع السياسية من مختلف المشارب في مكتب العياشي الهمامي ورجت كرسي بن على فلم يستقر بعده أبدًا.
العياشي هو مرشح الصف الوطني للمحكمة الدستورية وقد جمع حوله كل الطيف الوطني في حركة منذرة بتآلف الصف ولكن لن أخلط التحليل بالحلم، الصف الوطني في انتخاب أعضاء المحكمة يضم حزب النهضة الإسلامي هذه المرة وهذا أمر لا يقبل في كل الحالات، فمكونات الصف الوطني الأخرى تزايد على النهضة بأنها حليفة المنظومة بل منقذتها من الزوال.
هنا مربط فرس الثورة، فبعض مكونات الصف الوطني توزع شهادات الوطنية على البقية وتقصي من تشاء رغم أنهم على علم وبينة أنه لا يمكن تمرير مرشح وطني للمحكمة الدستورية إلا بقدر من التوافق مع حزب المنظومة (حزب النداء) والعياشي نفسه كرجل قانون يدرك ذلك، ولكن هذا التحالف الجزئي حول موضوع وحيد لا يتحول إلى سياسة دائمة، نعود إلى نقطة الصفر لنشهد أبناء القديمة مزدهين بانتصاراتهم على الثورة.
رغم ذلك فإنهم يتراجعون
بعيدًا عن المشادات الثورية الطهورية، لقد وصلنا إلى المحكمة الدستورية ووصلنا إلى الانتخابات البلدية وتم انتخاب كل الهيئات الوطنية التي أسسها الدستور، ناور أبناء القديمة لتعطيل كل ذلك ولكنهم خضعوا للقانون (للدستور) مرغمين وكل مناوراتهم الآن هي افتكاك المؤسسات ضمن منطق انتخابي لا شك أنه سينتهي بتراجعات أخرى فتعود المؤسسات إلى أصحابها، فالمؤسسة أبقى من الأشخاص.
سيكتب المؤرخون ذات يوم أن توافق النهضة مع النداء كان بمثابة عملية خنق بطيئة للمنظومة وأبنائها ولولا ذلك لما وصل البرلمان إلى انتخاب الهيئات، قبل ذلك لن نسمع الثوريين يعترفون بنتيجة التوافق لأن بعض الثوريين في الحقيقة فقدوا مكانتهم في حجر أولاد القديمة، لقد كانوا ربائبهم وعملوا على إعادة معارك تونس القديمة الدامية لكن التوافق الملعون أودى بهم وأودى أيضًا بالمنظومة وهو يفككها تفكيكًا بطيئًا ولكنه مفيد على المدى الطويل.
يمكن لمن يقوم بمراجعة سياسية جدية أن يعيد تقييم نتائج التوافق الآن ويبني عليها انتخابات 2019، وقد بينت انتخابات هيئة المحكمة أن اللقاء ممكن وأنه منتج لخيارات أخرى تتجاوز التوافق الحاليّ مع المنظومة إلى توافقات ضدها، لكن حتى ذلك الحين سنقول إن أبناء المنظومة يتراجعون وكثيرًا من الثوريين المزيفين أيضًا يتراجعون ليخلص الوطن لمالكين جدد يقسمون الحروب الطويلة إلى معارك صغيرة ويربحونها واحدة بعد أخرى ويبدو أن هذا فن الممكن.