انفجرت في تونس خلال شهر شباط/ فبراير 2018؛ فضيحة تجسس وتخريب موجهة من جهة أجنبية، وأضيفت إلى قضايا أخرى، وفضائح اختراق مخابراتي ليس أهونها اغتيال الموساد للشهيد الطيار الزواري بتواطؤ من جهات محلية؛ سهلت دخول المنفذين وغطت انسحابهم. تراكم هذه الفضائح السياسية يكشف أن البلد مخترق من الداخل قبل الخارج، وأن التونسيين غير متفقين على مسائل أساسية؛ منها مسألة حماية السيادة الوطنية، بما يجعل وجودهم المشترك مهددا ومنذرا بخراب قد نرى أوله ولا نستطيع توقع نهايته.
قال المريب خذوني
صدرت آخر أخبار الاختراق والتجسس في جريدة غير جديرة بالاحترام، وبقلم صحفية مشهورة باصطناع الإشاعات الكاذبة، فلم يأخذها أحد مأخذ الجد، لكن تدخل جهة قانونية من القطب القضائي لتعديل الأخبار لا لنفيها؛ جعل الجميع يوقن بأن الأمر أكبر من أن يخفى في تسريبات غير جدية تستعملها عادة جهات أمنية لتمييع المسائل المهمة بواسطة صحافة مرتزقة.
الملف مفتوح منذ سنة تقريبا، والمتورطون فيه وجوه النخبة السياسية، وكثير من الخبراء الذين ملأوا التلفزات بنقد الوضع السياسي وبث حالة من الإحباط والترهيب من سقوط الدولة في الإفلاس، والأهم من كل ذلك، ترذيل الثورة والسخرية منها ونعتها بثورة البرويطة.
مختصر الاتهامات ومدار التحقيق أن جاسوسا فرنسيا يهودي الديانة؛ استقطب عددا من رجال السياسة في الدائرة المقربة من قصر الرئيس، ونقل عنهم إلى مشغليه كواليس ما يجري في قطر قرطاج. ولا نعلم بعد ما إذا كانت أخبار الحكومة نفسها قد تم اختراقها هي الأخرى، لكن دائرة المستقطبين كبيرة وواسعة، والأخبار توقفت عن التسرب بأمر ما.
الجهة القانونية التي تدخلت إعلاميا في الملف كيّفت الاتهامات على أنها فساد مالي ورشى وشراء ذمم سياسية وتبييض أموال، وليست تجسسا بالمعنى الحرفي أو الكلاسيكي للتجسس الأمني أو العسكري. وأعتقد أنه جاء يكحلها فطمس بصرها. فالاختراق الاقتصادي بواسطة المال الوسخ جعل الاتحاد الأوروبي يصنف تونس ضمن الجنان الضريبية، وحط من سمعة اقتصادها وأربك دبلوماسيتها القاصرة جبلة. وتزامن الحدثان (أي أخبار الاختراق للجبهة الداخلية والتصنيف الأوروبي) كشف عمق الخلاف الداخلي حول مسألة السيادة، وأن فئة واسعة من التونسيين غير مهتمة بتماسك هذه الجبهة، بل هي تعمل على كسرها وتفكيك البلد المؤذن بانهياره لصالج جبهة من الأعداء منهم الصهاينة.
اتضاح جبهة أعداء الثورة
لم نفق من فضيحة الاختراق الإماراتي حتى انفجرت فضيحة الاختراق الفرنسي، والتي تضاف كلها للاختراق الصهيوني الذي يلاحق كل نفس مقاوم؛ متمثلا في اغتيال صانع الطائرات الأبابيل، الشهيد الزواري.. جبهة واحدة يجمع بينها معاداة الثورة التونسية خاصة، والربيع العربي عامة.
والمضحك المبكي في المشهد أن الذين وردت أسماؤهم في كل هذه الفضائح يلحون منذ سبع سنوات على أن الثورة العربية ما هي إلا ربيع عبري؛ هيأته ودفعته الجهات التي تستقطب الآن الجواسيس لتحطيمه. أي أنهم في الوقت الذي يتهمون فيه الثورة بأنها صناعة صهيونية، نكتشفهم في حالة تلبس بخدمة الصهاينة وحلفائهم في المنطقة، فضلا عن تحالفهم العلني غير الخفي مع كل بيادق الصهاينة في ليبيا ومصر وسوريا.
عداء الثورة لم يكن من أجل السيادة المهدرة - كما يزعمون - بل هو إهدار فعلي للسيادة التي عملت الثورة على ترميمها؛ بقطع دابر العميل الأكبر الهارب، ابن علي، الذي مكث في السلطة مستعينا بالخبرات الفرنسية في قمع التظاهر وقهره بالحديد والنهار. ففرنسا التي عرضت على ابن علي المساعدة حتى الساعات الأخيرة؛ هي التي تستقطب الآن الجواسيس وتحطم السيادة وتخرب المشهد برمته، رغم أن أغلب وجوه النخبة الحاكمة والمعارضة تستجدي رضاها في كواليس قصر الإليزيه. فلم يكفها ولاء هؤلاء العلني، بل تعمل على معرفة كل تفصيل.
لقد اشتروهم
الآن تتضح الثورة المضادة، وما كان أقل ثمن عناصرها.. إنها ملاليم مقابل تخريب بلد كامل. لكنها الضارة النافعة، وإن أُخرس الإعلام بعد انفجار الفضيحة. (ربما يكون التسريب نفسه جزء من معركة الخونة فيما بينهم).. ونقول الخونة عامدين؛ لأننا لم نجد لهذا العمل من توصيف إلا الخيانة الوطنية. قال الجاسوس لرؤسائه لقد اشتريته، ويعني بذلك زعيما سياسيا نبغ بعد الثورة وقاد الثورة المضادة، متسلحا بمال مجهول المصدر، وتزعم حديث الوطنية، مستعملة كل حركات الفاشية وخطابها، مقسما التونسيين إلى ذوي الدم الأسود والدم الأحمر. ولقد اشتراه بأقل مما يُشترى عجل هزيل.
الضارة النافعة أن نكتشف (أو نعرف بدقة) من يقود الثورة المضادة وما أهدافه، وبكم يقودها. لقد كانت الثورة عاجزة منذ البداية عن امتلاك إعلام يدافع عنها، وعاشت سنواتها السبع ترد على الإشاعات الكاذبة، فلا تخرج من كذبة حتى تربكها أخرى. والآن بين أيدينا مصدر الأكاذيب والإشاعات ومصدر تمويلها، وأهدافها التي لم تعد خفية إلا على من يتعامى.
الآن يتجمع أمامنا صف الثورة المضادة واضحا لا لبس فيه.. أنهار من المال الفاسد تصب في جيوب خونة من أجل إيقاف موجة الثورة أن تفعل في النفوس، وأن تغير في اتجاه ترميم السيادة المخترقة، وأن تبني بلدا حرا مالكا لزمام أمره بين الدول. لكن طمر الفضيحة لن يفلح في جعلنا ننسى الخونة بيننا.
لكن معركة السيادة لا تزال طويلة
لقد علمنا مَنِ الخونة ولكن هل نقدر عليهم؟ هنا أخفض سقف التفاؤل.. فقد كشفت المتابعة أن الملف سيطمر؛ لأن الفضيحة مست أركانا في الدولة وليس فقط أشخاصا في الهامش الاقتصادي والسياسي. فرد الحكومة على الاختراقات الاقتصادية وعلى التصنيف الأوروبي كان بعزل محافظ البنك المركزي وليس بدفع تحقيق عميق لمطاردة الفاسدين. وهو تحريف للمعركة القانونية والسياسية ضدهم، والبحث عن كبش فداء في مكان آخر.
ولقد حاول التسريب الإعلامي منذ البداية توجيه الأمر لتوريط الرئيس المنصف المرزوقي، باعتبار أن أحد المتهمين كان مستشارا له؛ متناسيا أن المرزوقي قد أبعد المستشار المذكور في تاريخ سابق على تاريخ وقائع التجسس، ولم يجد المسربون أثرا أو سببا لتوريط حزب النهضة في الفضيحة، ولذلك ملنا إلى الاعتقاد بأن القضية ستموت على النفاس، فهي لا تمس أيا من شخصيات مرحلة حكم الترويكا (2012-2013)، بل إن المفضوحين كانوا في قيادة من شنع على تلك المرحلة، وما يزال يشنع بعد، ويتهمها بأنها صنيعة "الربيع العبري".
بقطع النظر عن براءة هذا الطرف أو ذاك وعن تورط جهة دون أخرى، فإن الخلاصة المؤلمة أن فرقاء السياسة في تونس ليسوا متفقين على إدارة خلاف سياسي عقلاني تحت سقف الحفاظ على البلد وسيادته. وهذا هو الأمر الذي وجب الانتباه له. يوجد في تونس من يستهين بالبلد، فيبيعه بثمن بخس، فيقدم أسراره الأمنية والاقتصادية على طبق من ذهب لأعدائه، فيغتالون أبطاله ويحطمون سمعته ويخربون اقتصاده.
وليس لنا أن نتفاءل بعد بقرب انهيار صف الخونة، فالمال لا يزال بين أيديهم، والقضاء يخشاهم، والحكومات.. بل أيضا رئيس الدولة مرتبك، برغم ما لديه من سلطات في تجلية الأمر للرأي العام، والشروع فعلا في بناء سيادة وطنية مصانة من الداخل قبل الخارج.
سيكتب المؤرخون ذات يوم أن حفنة من الخونة المأجورين أعدموا ثورة، وأن أبناء الثورة مكثوا غير بعيد ينتظرون أن تنهار الثورة المضادة التي يقودها الخونة من تلقاء نفسها وهي خيانة أخرى.