في تونس يدور النقاش السياسي حول نفسه ولا يتقدم، في السنة الماضية كتبنا عن دور بورقيبة ومكانته في تاريخ تونس وقبل ذلك كتبنا عن مكانته ودوره، وكانت الجمل في كل سنوات الحرية تترادف وتتشابه، بين مكبر للزعيم وواضع له في مصاف الأنبياء ومرذّل له ونافٍ لكل دور إيجابي لعبه في تاريخ تونس الحديثة.
غير أن حديث هذه السنة تجاوز حديث العامة إلى صراع داخل طبقة السياسيين ودخل مثقفون معترك تقديس الزعيم، وذلك على إثر ما نشرته السيدة سهام بن سدرين رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة من وثائق تتعلق بالاستقلال ووثائق التصرف المستقل في الثروات الوطنية الباطنية منها أو السطحية أو ما سيعرف في النقاش بخبايا الأرض.
محتوى الوثائق يتعلق بالتشكيك في وثيقة الاستقلال ويزرع الشكوك عن مدى سيطرة تونس على ثرواتها الباطنية وخاصة المواد الطاقية.
رئيسة الهيئة تصرفت كسياسية
يدخل في صميم عمل الهيئة المنتخبة من البرلمان أن توثق جميع الحقوق أو ما يمكن أن يكون مظالم ترتبت على عمل الدولة في حق مواطنيها، وكان برنامج عمل الهيئة قد أعلن منذ البداية العودة بالبحث في المظالم إلى سنة 1955، سنة الاستقلال الداخلي، ولذلك اجتهدت الهيئة ورئيستها في النبش بالأرشيف القانوني والسياسي للدولة التونسية ووصلت إلى وثائق تنشر لأول مرة وأخرى لم تصدر بالعربية ولم تنشر بالرائد الرسمي وذلك من داخل الأرشيف الاستعماري الفرنسي.
أثار نشر الوثائق ضجة كبيرة وتعرضت رئيسة الهيئة إلى حملة شعواء من الإعلام الموالي للمنظومة القديمة، ممن يقدس بورقيبة الذي ظهر في هذه الوثائق كرجل سياسة لم يصارح شعبه بحقيقة ما أبرم من اتفاقيات مست الحقوق الأساسية خاصة في مجال التحكم في الثروات الطبيعية.
كان لهذه الحملة على رئيسة الهيئة بعض الحق؛ فرئيسة الهيئة تصرفت بمفردها دون إخراج قانوني ضمن نطاق عمل الهيئة مما بعث كثيرًا من الريبة بشأن نواياها السياسية وهي المكلفة بتبيان الحقوق ورد المظالم خارج الصراعات السياسية بين الأحزاب والتيارات المتصارعة.
لكن الردود على رئيسة الهيئة لم تكن قانونية بل من جنس العمل السياسي الذي اتهمت به رئيسة الهيئة؛ فقد ظهر مؤرخون لا يناقشون الوثائق بل يركزون فقط على الطموح السياسي لرئيسة الهيئة واعتبروها مترشحة لانتخابات 2019 رغم أنه لم يصدر منها أي كلام في هذا الخصوص.
المؤرخون وتسييس الرد الأكاديمي
أهم رد فعل على رئيسة الهيئة جاء من نخبة من المثقفين عبر عريضة وقعها 64 جامعيًا زعموا أنهم مؤرخون متخصصون (وقع على العريضة بعض المختصين في الكيمياء مثلاً)، ونشرت بالصحف السيارة وبمواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن سبق أحد الموقعين بالطعن في أخلاق رئيسة الهيئة دون الرد على الوثائق وحظي من أجل ذلك بمقابلة رئيس الدولة وتشجيعه والثناء على جهده.
تميز الرد الأكاديمي بأنه رد سياسي بعيد كل البعد عن الأكاديميا؛ فقد زعم الموقعون أنهم مؤرخون وليسوا مجرد أساتذة تاريخ، وهذه مغالطة كبيرة، إذ التبس على الناس أمر وهو أن مدرس مادة التاريخ بالجامعة ومهما علا صيته في الدرس لا يتحول إلى مؤرخ لأنه لم يكتب فيما يؤدي إلى تغيير فعلي في عمق المادة العلمية وإنما قضى حياته شارحًا ومفسرًا.
وذهبت العريضة إلى الادعاء بأن عمل التاريخ هو عمل مقتصر على المتخصصين وليس لأحد حق الخوض فيه بما يجعل التخصص العلمي أصلاً تجاريًا (مهنيًا) موضوع ارتزاق لا أكثر وبما يجعل أي سياسي أو حقوقي ينشر مادة ذات علاقة بالتاريخ ممنوعًا من النشر لأنه غير متخصص.
والتأكيد على التخصص واحتكار حق تملك المادة التاريخية والتصرف فيها جاء بمثابة إقصاء معرفي لكل من تسول له نفسه الحديث السياسي أو القانوني لمراجعة التاريخ، هذا فضلاً على أن رئيسة الهيئة تملكت حق النشر ولم تعمل على تأويل الوثائق أو تقديم قراءة تاريخية فيها.
وجملة هذه الردود لم تدخل إلى مضمون الوثائق، بل اكتفت بالقول إن الوثائق صحيحة غير إنها منقوصة ومجتزأة، وعوض الإشارة إلى النقص وما يمكن أن يكمل الوثائق أو يطعن في صدقها بوثائق أخرى، فإن المؤرخين اكتفوا بمداورة الوثائق والنكوص إلى الثلب السياسي والتلميح غير الأخلاقي في رئيسة الهيئة.
سرديتان في صراع يتجدد
كم كان بودنا أن يذهب المؤرخون المزعومون إلى أحد أمرين: إما الطعن فعلاً وبالدليل التاريخي الثابت والموثق في صحة الوثائق المنشورة، أو في تصحيح نواقصها ليمكن تأليف الصورة الكاملة عن التاريخ التونسي الحديث وشخصية الزعيم بورقيبة ودوره الفعلي في تحقيق الاستقلال والسيادة على الأرض وعلى خباياها.
وكان هذا سيمثل ردًا علميًا شافيًا يضع حدًا لكل تأويل أو استثمار سياسي للوثيقة التاريخية أو تخطيط لأمر تنويه رئيسة الهيئة طبعًا دون الخوض في شرفها السياسي أو ولاءاتها.
لكن تأبي الحقيقة التاريخية (الاجتماعية) إلا أن تكشف وجهها، وهذه أهم نتيجة تبين لنا من هذا الصراع السياسي المتخفي خلف القناع الأكاديمي الذي لبسه عناصر من نخبة الجامعة وكشف رغم سمك القناع مواقعهم وولاءتهم، لقد انحاز جزء كبير من نخبة الجامعة إلى سردية النظام التي بناها عن تاريخ تونس ومكانة الزعيم ودوره.
لقد روج النظام منذ الاستقلال سردية وحيدة تقوم على دور محوري لبورقيبة محقق الاستقلال وباني تونس الحديثة ونهضتها الباهرة، ولسلامة هذه السردية من كل طعن كان قسم التاريخ بالجامعة من أهم الأقسام التي يسيطر عليها مؤرخو النظام بحيث يمنع أي عمل مراجع أو مشكك فيها، لقد كان محور تاريخ الحركة الوطنية في درس التاريخ منذ الابتدائي إلى الدكتوراة مرتبًا بحيث يتخرج فيه المتعلم بصورة عن رئيس نبي قاد كل الحركة الوطنية وحده وبنى بلدًا ناجحًا من العدم وغيب في الأثناء كل قامة أخرى وكل دور إلا دور الزعيم.
منذ الثورة بدأ الطعن في هذه السردية ونشرت وثائق وطرحت مسألة السيطرة على الثروات قبل نشر وثائق الهيئة التي ستعرف بوثائق بن سدرين، وجاء الرد من المنظومة المحافظة على السردية بإعادة نصب تماثيل الزعيم التي أزالها بن علي من المدن، (كانت المنظومة مرعوبة وهي تنصبها فتتخير لها الليل البهيم ليقوم الناس في الصباح على تماثيل مصقولة بعد ربع قرن في المخازن).
الطريف في الأمر أن بعض من وقع على العريضة من الأكاديميين الذين حملوا باقات الورد لمحمد الغنوشي وزير بن علي عندما أسقطه اعتصام القصبة 2 فسقط حاملاً معه شكل المنظومة ورجالها، ولكن المحزن أن انضمت إليهم قامات أكاديمية كانت محسوبة خاصة على اليسار الراديكالي الذي طالما طعن في سردية الاستقلال كما يروج لها النظام؛ مما كشف حقيقة تلك المعارضة العلمية التي كانت في جوهرها بحثًا عن مكانة ضمن السردية لا خارجها أو ضدها.
فلما انكشف أن السردية يمكن أن تسقط تحت مطاعن موثقة بالحجة والدليل أظهروا وجههم الحقيقي ووقفوا ينافحون عن سردية النظام التي يمكن أن تعد بعد بمكاسب أو على الأقل تحافظ على المكانة المكتسبة ضمن النطاق الأكاديمي بصفتهم مراجع وحيدة في التاريخ.
أن تنهار الرواية التي عاشوا منها معناه أنهم سيحتاجون إلى تأليف سردية أخرى لم يعودوا يملكون لها الجهد والوقت والحجة، ومعناها أيضًا انهيارهم الأخلاقي والطعن في كل تاريخهم وشرفهم المهني وسمعتهم العلمية المدعاة.
مرة أخرى نقف على طبيعة النخبة التونسية وهي المكون الأساسي للطبقة الوسطى التونسية التي تعبر عن أخلاق (ميول وولاءات) برجوازية صغيرة منحازة للطبقة الأعلى منها (بتحليل مادي تاريخي مبسط طالما استندوا إليه منهجيًا في قراءتهم للتاريخ)، فمع طبقة رجال بورقيبة (برجوازية النظام) يمكن تدبر مكاسب من بيع اللقب الأكاديمي.
لقد بات من الواضح الآن أن مطالبة الثورة (وليست هيئة الحقيقة والكرامة إلا من وسائل الثورة) بمراجعة التاريخ الرسمي وإسقاط هالة الزعيم ستسقط معه بالضرورة كل منظومة المنافع التي بناها وكل احتمالات تدبير المكاسب ضمنها لا خارجها، وهنا ترتبك النخبة وتفقد بوصلتها الأكاديمية لتظهر حقيقة دفاعها عن مكاسبها الشخصية التي كانت تلبسها لباس الأكاديميا والتخصص العلمي الذي يحتكر المعرفة.
لقد غلبت منظمة مصالح النخبة بصفتها طبقة وسطى أو (برجوازية الجامعة) جوهر العمل الأكاديمي الموضوعي المنحاز للمعرفة وظهرت طبقة الأكاديميين خدم النظام لا خدم الثورة ومفكريها، الآن فقط يمكن أن نفهم تفصيلاً ما مر بنا دون أن نبحث فيه.
فعندما أفرجت فرنسا عن بعض الوثائق المتعلقة باغتيال الزعيم حشاد وتكلم أحد أفراد عصابة اليد الحمراء (منظمة اغتيالات فرنسية) واعترف باغتياله لحشاد لم يتقدم الأكاديميون إلى البحث في الأمر ووقفوا مع النقابة التي رفضت المطالبة بتحقيق دولي في الجريمة (والقاتل لا يزال على قيد الحياة)، هؤلاء الأكاديميون من يروج لسردية الاتحاد أقوى قوة في البلاد.
موقفهم المتجاهل لاغتيال حشاد من جنس موقفهم في الدفاع عن بورقيبة، هو جوهر موقفهم من وثائق الهيئة، الحفاظ على سردية النظام لأنها مصدر بقائهم وخبزتهم التي يعتلون بها المنابر كملاك للحقيقة، لكن تأبى الثورة المسكينة إلا أن تعري كل شيء وما هذا إلا حلقة أخرى في مسلسل الانكشاف.
إن سردية أخرى توثق الآن لتاريخ جديد يقوم على وثيقة جديدة وبمؤرخين جدد قد لا يكون لهم لباس أكاديمي ولكن لهم انتماء إلى التاريخ كما تم لا كما سردته الإذاعة الرسمية بتوجيهات السيد الرئيس.