العرب بعد حلب؟

Photo

منقسمون دوما وبعد حلب ينقسمون أكثر. كأنما كتب عليهم أن ينقسموا إلى ألف دويلة ومليون حزب. ليمعنوا في تدبيج قصائد عصماء حول فائدة الوحدة. فلا فائدة لقصيد وحدوي إذا كانت الوحدة قائمة إذن لنجعل القصيد هدفا ونحوّل الأوطان إلى وسيلة شعرية أو لنهدها سائغة للقوى الدولية وننتظر معجزة. فالعرب لم يتحدوا إلا بمعجزة وقديما قال عالمهم إن العرب لا يتغلبون إلا بدعوة دينية فإذا انحلت عصبية الدعوة عادوا أعرابا يضرب بعضهم رقاب بعض. وإنهم ليفعلون ذلك الآن في حلب وما حولها بإتقان هندسي عجيب. العرب بعد حلب يدخلون القرن الواحد والعشرين دون العراق ودون الشام ودون اليمن ودون مصر .أربع دول كبرى فاشلة تتنازعها الطوائف والمذاهب والحروب وتخترق لحمتها الباقية بلاك ووتر وصنائعها المحلية المدربة على بث الفوضى و قطع الأمل. واللعنة على تونس التي كانت السبب. ولكن رغم ذلك فإن حلب شهدت ميلاد العرب.

الدعاء على تونس بالخراب.

عندما تتصفح مواقع الكتبة الكسالى الذين يصدرون عن أوامر الأنظمة التي تملي عليهم تجد دعوات بالخراب على تونس ويمعن البعض في إجراء المقارنات بين ما قبل انطلاق الربيع العربي وما انجر عنه من خراب فتنتهي معهم إلى تمجيد السكون الذين كان قائما والقهر الذي كان مهمينا ثم تختم بأن العرب حثالة الأمم ولا يمكن حكمهم إلا بالحديد والنار. وقد كانت تونس سببا في كسر القاعدة ولذلك وجب لعنها. فلنقل مع اللاعنين، لعن الله من أشعل النار فلولا الأنظمة الحارقة لشعوبها ما قامت الشعوب لتحرق نفسها فداء حرياتها. ولكن هذا ليس من التحليل بل هو عاطفة جياشة يثيرها أن تونس تحتفل اليوم بذكرى السابع عشر من ديسمبر 2010 وهو اليوم الأول لانطلاق الثورة التي أحرقت هشيم الأنظمة حتى وصلت إلى حلب.

ترسل حلب الآن الى تونس بعض الشّواض المرتدة معتمدة على كسل القائلين بالمؤامرة الكونية على أمة العرب. حيث أن ما يجري استهف فقط النظام الوطني الواقف شوكة في حلق العدو. منذ أيام لا نسمع إلا ذكاء عجيبا يقول بأن الشعوب العربية ومنها الشعب السوري هم ضحايا أغبياء لم تنفع معهم أنظمة ذكية لذلك استسلمت الشعوب للمؤامرة وطاوعتها فخسرت السّلام الجميل.

ويحتفل جزء من شباب تونس بانطلاق ثورته وقد سارت القوافل من كل مكان إلى مهد الثورة (بوزيد) للاحتفال والاستحواذ الرمزي على تاريخ الثورة الذي تحتفل به السلطة في العاصمة يوم 14 يناير. وهذا في ذاته انقسام لكنه يغطي انقساما آخر في ببوزيد حيث يقف أنصار الثورة متفرقين بين الأحزاب وعليهم أن يردوا على معكسر مواز يقف قريبا ويتهمهم في ولائهم الوطني ويرجمهم بأنهم حطب المؤامرة الخارجية على أنظمة وطنية. صورة مصغرة تكشف حالة أمة لا تتفق في التحليل فلا تتفق في القرار فتسير شتاتا إلى مستقبل لا يقوم إلا بقوة العدد واللّحمة. بوزيد اليوم عينة من العرب بعد حلب ولكن إلى حين.

بعض التحاليل الهادئة تراجع التاريخ كيف لدولة مثل ايران إن تستقوي على العرب وتخترق عواصمهم وتخضع شعوبهم ؟وقبل قطف العبرة من التاريخ يرد على السؤال بآخر. ماذا كان دور النفط العربي في توحيد الأمة فتنقطع الأسئلة وتنتهي إلى الخلاف نفسه الذي كان يدار تحت الطاولات قبل الثورة وتعرى بعدها. مع إنكار مرضي كامل لدور الثورة في تعرية الخلاف فكأن فضحه ليس مكسبا في طريق الوعي به والقضاء عليه. جدل عقيم تحت قلعة حلب المخربة بطيران روسيا الشقيقة.

أمة بلا مشروع.

هذه حقيقة قبل حلب وبعدها وربما قد تفتح حلب المقهورة باب التفكير في المستقبل خارج قواعد التفكير القديمة. فيكون لها فضل دحض أطروحات العسكر الممانع والمحتفظ بحق الرد على ارضه محتلة منذ نصف قرن. فتكون حلب مثل بوزيد فاتحة على عهد مختلف. في هذه الفوضى ثمة خلق وهو غير الخلق الذي جاءت به الفوضى الخلاقة على طريقة كونداليزا رايس. لقد كان لزاما أن تخرج الشعوب من صمتها وقد خرجت من بوزيد تونس. في مثل هذا اليوم من ست سنوات. قبس اللهب أشعل حرائق والردة رفعت الكلفة إلى حد الندم ولكن لم يعد يمكن أطفاء نيران الثورة.

نبكي الآن الكلفة العالية للتغيير وقد جمد الحزن على دمار حلب قلوبا كثيرة ولكن ما انطلق لن يتوقف إلا بمشروع جديد ليس فيها أنظمة عسكرية. أليس أمرا ذا دلالة أن الكلفة ارتفعت حيث وجد العسكر وأن هذا العسكر الذي لم يخض حربا ضد عدو الأمة أبدا هو من يعادي حرية الأمة ووجودها. وهو من يستميت في قمع أنفاس الحرية. والمضحك المبكي أنه يفعل ذلك متلحّفا بنظرية المؤامرة على الشعوب كأنما لتبقى له إقطاعا أبديا يقمعها كيف يشاء؟ هذه هي النتائج/ الدروس المستفادة من القبس التونسي الذي أشعل هشيم الأنظمة حتى وصل حلب.

حلب في تقديري هي النقطة الأخيرة في مسار طويل من التخريب الرسمي. وبعدها سيأخذ التاريخ منعرجا جديدا لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع الأنظمة العسكرية القمعية التي فوتت على الأمة 60 عاما من التحرر والتنمية والبناء. بإمكانها أن تناور في معارك أخيرة مستعينة بالصهاينة وبالروس وبالفرس ولكنها ستنتهي إلى حقيقة أن أسباب بقائها قد انتفت.

سنشهد اضطراب المسار الثوري لفترة طويلة أخرى لكن بالحد الأدنى من الحريات الذي تحقق ستستنزف الشعوب الحرة أنظمة القمع فلا تقوم لها قائمة (أليست قد قامت واستمرت بقتلها للحرية) يجري هذا الآن في مصر بنشق حثيث بما جعل الانقلاب العسكري يفقد الأرض تحت قدميه. وسيجري هذا في سوريا بمسار طويل من حرب العصابات في قلب دمشق نفسها حيث الحاضنة الفعلية لثورة لن تبرد إلا لتشتعل بطريقة مختلفة ولكن على نفس المسار وسيكون هذا في اليمن عندما يفقد عدو الثورة السند الخارجي فلم تكن لها قوة داخلية تسنده. أما ليبيا فقد بدأت ترى آخر نفق اللّجان العشبية المتنكرة في زي داعش.

نسمع الآن كلاما كثيرا عن أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستقضى على الربيع العربي وهو استنتاج مضحك فهل كانت الإدارة السابقة صديقة لهذا الربيع؟ وإلا ما معنى وقوفها وتخطيطها لانقلاب العسكر المصري على أول تجربة حكم مدني منذ 70 عاما ؟ ومنذ متى كانت الإدارات الأمريكية تساعد الشعوب على التغيير الديمقراطي السلمي؟ لست هذه التحليل إلا جزء من الاستبضاع السياسي لدى نخب لا ترى قدرات الشعوب وتكتفي فقط بمراقبة الوضع وشرب القهوة و تشهّي الحرية الجاهزة.

للحرية أثمان وقد دفعت حلب عن الأمة قسطا جزيلا من هذا الثمن. الأمر مكلف في الأرواح والمعمار نعم ولكنه فتح لما بعد حلب لقد ولد العرب الجدد في حلب تحت القصف الروسي وبين ساقي اللص الايراني وفي مخاض دام وتحت أنظار العالم ولكنها ولادة لعرب لن يحكمهم العسكر .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات