المدرسة التونسية بين مطرقة الحكومة وسندان النقابة

Photo

الحكومة الفاسدة تستحق نقابة أفسد منها، أما الشعب الكريم فقطيع خرفان مُرْبِعة وهذا موسم جز الأغنام في بر تونس، حيث نعيش أسرى صراعات النخبة التي كلما سقط منها فاسد نبغت منها أفواج من الفاسدين.

فاض علينا صدى معركة رجال التعليم الثانوي مع وزارتهم ووجدنا الناس منقسمين بين من يراها أم المعارك ومن يراها جريمة في حق التعليم، ووصلت الأزمة قمتها بين الوزارة والنقابة عندما قررت النقابة الإضراب الحضوري المسمى تمويهًا بتعليق الدروس، وحجبت علامات الامتحانات عن الإدارة فلم تصدر بطاقات الأعداد التقييمية منذ أول السنة.

في لعبة عض الأصابع بين الوزير والنقابة لم يصرخ أحد بعد ولكن التعليم العمومي صار خلف التونسيين، والمستثمرون في التعليم الخاص يفركون الآن أيديهم ويبحثون عن المقرات المناسبة للمدارس الخاصة، كأن التعليم ذي السرعات المتفاوتة صار أمرًا واقعًا ولكنه أخذ بهذا الإضراب المدافع كذبًا وزورًا عن المدرسة العمومية زخمًا لم يحلم به أعتى الليبراليين.

لقد قرأنا لائحة المطالب مرات كثيرة ونعتقد أن ليس فيها ما يستحق إغلاق المدرسة وإفشال العام الدراسي وإدخال البلد في أزمة إضافية في غنى عنها، بما يرجح في كل قراءة فبركة التحرك الكاشفة لخلفيته السياسية التي سيتم علاجها في مكان آخر، خارج التقسيم الإقصائي بين خائن يدافع عن الوزارة (الحكومة) وثوري وراء نقابة ثورية، أرى هذا الإضراب استمرار لأجندة اليسار الاستئصالي منذ الثورة خاصة.

الآن البلد أسير والمدرسة أسيرة والنقابة في ذاتها أسيرة ولا فكاك من الأجندة السياسية داخل النقابة التي صارت حزبًا.

النقابات السياسية

لم تخرج نقابة التعليم الثانوي خاصة عن سيطرة تيارات سياسية من أقصى اليسار والقوميين (الذين كانوا يرفضون العمل النقابي قبل موت الجنرال سكيك في حادث طائرة مشبوه) وكانت دومًا أداة في يد هذه التيارات تستعملها فيما تشاء وقتما تشاء، وكان الغالب على أسلوبها إعلان مطلب نقابي مهني والتفاوض على مطلب آخر غالبًا في مكان آخر، فإما مطلب سياسي أو حركة تموقع ضمن هياكل النقابة، إذ تعتبر هذه النقابة بوابة الترقي لمواقع نقابية أعلى مثل المكتب التنفيذي للاتحاد.

وهي تتقن هذه اللعبة وتجد قطاعًا مهنيًا يخجل (أو يخاف) رغم وعيه بحيل النقابة في كسر تحركاتها والخروج عنها، وكثيرًا ما نجحت تحركات النقابة بإغلاق المؤسسات في وجه غير المضربين، خاصة أنها أفلحت في فرض المنتسبين السياسيين لهذه التيارات في إدارة المعاهد بعد الثورة طبعًا، فقبل الثورة كانت النقابة أخفت صوتًا وأقل حيلة أو كانت تقبض في مكان آخر.

ولا يخرج تحركها هذا عن هذا البرنامج، فالمطالب المرفوعة لأنظار الحكومة ليست حيوية إلى حد التضحية بسنة دراسية كاملة، لذلك ننتظر حل المشكل سياسيًا وترضية الشق السياسي الذي يسيطر على النقابة دون تلبية أي مطلب من المطالب المضمنة بلائحة الإضراب، ما المطالب المحتملة لهذا التيار السياسي؟ فإصلاح التعليم آخر مطالب النقابة ذات التوجه العروبي الذي يدعم الفرانكفونية في المدرسة ولا يحفظ للعربية حقها.

المكوث في حرب الاستئصال السياسي

التيار السياسي الذي يسيطر على النقابة هو قلب التيار اليساري الاستئصالي الذي لم يغير أجندته السياسية بعد الثورة والمتمثلة في محاربة التيار الديني عدوه الوحيد، وفي المدى المنظور ينتظر التونسيون تعديل حكومة الشاهد بعد أن تستكمل الإشراف على الانتخابات البلدية وستكون الحكومة البديلة حكومة الإعداد لانتخابات 2019 (التشريعية والرئاسية).

فإذا أمكن إعادة بناء تحالفات سياسية حكومة ما بعد الشاهد (أو بيوسف الشاهد دون نفوذ حقيقي) من دون حزب النهضة فإن ذلك سيؤدي إلى تقليص حظوظ الحزب في الاستحقاقات القادمة تمهيدًا لركنه في المعارضة كحزب أقلي ولما لا فتح معارك تصفيته ولو دون ضربة قوية مشابهة لضربات بن علي الذي أفلح في ذلك بواسطة نفس التيار السياسي المسيطر على النقابة.

تروج النقابة الآن تسريبات محسوبة أن الحكومة تعرض عليها الاستجابة لمطالب القطاع مقابل صمت الاتحاد على التفويت في مؤسسات عمومية وهذه التسريبات المفبركة تكشف أن مطالب القطاع ذريعة وليست أصلاً وهو ما يؤكد الأجندة غير النقابية للتحركات، ولأن الأمر في جوهره سياسي وغير نقابي فإن الطرف النقابي (الطرف السياسي إياه) يضع مطالبه السياسية على الطاولة ويغلق المعاهد ويهدد السنة الدراسية.

وعليه فإن وزير التربية لم يعد الطرف المفاوض الحقيقي ولذلك لا يستجيب لأن الأوامر لم تصدر له بشيء ولذلك يذهب رأس الاتحاد لرأس الدولة ويهدد بالانسحاب من كل توافق سياسي قائم ويطلق حملة ضد رئيس الحكومة.

وفيما المعاهد مغلقة وتلاميذ تونس يتيهون في الشوارع يجري تفاوضًا في مكان ما على ترتيبات انتخابات 2019 يكون للنقابة دور رئيسي فيها هذا إذا لم يكن لها كل الدور في ترتيبات الحكم دون إسلاميين، وهذا سر الصمت أو اللامبالاة التي تتظاهر بها الحكومة تجاه القطاع، فلحزب الحكومة الكبير أجندته من التصعيد.

كم يستطيع رئيس الدولة (قانونيًا الرئيس غير معني بالتفاوض المباشر) أن يعطي مقابل التضحية بالهدوء السياسي الذي نتج عن تحالفه مع الإسلاميين وهو الهدوء الذي يضمن له ولابنه البقاء في المشهد السياسي لما بعد 2019؟ هنا يتعقد الأمر لأن البلد في الأصل محكوم من خارجه لا بقواه الحية.

النقابة قادرة على تقديم ضمانات لفرنسا في تونس ولكن ليس لديها أي ضمانة تعطيها للجار الجزائري الذي يعتبر وجود الإسلاميين في الحكم ضمانة دفاعية على حدوده الشرقية.

لقد دفعت النقابة الرئيس والحكومة والطبقة السياسية إلى زاوية ضيقة تجعل الاستجابة لها نهاية مرحلة سياسية ونهاية نظام، لكن النقابة لا تقدم بديلاً غير مشروع الاستئصال السياسي الذي للغرابة يتفق تمامًا مع الأجندة الفرنسية (والإماراتية بالتبعية) في تونس، هنا يتبين ثمن جائزة نوبل للسلام.

البلد الأسير

ليس تلاميذ تونس هم الأسرى عند النقابة، هذا جزء من أمر كلي أشمل، إنها حرب الاستئصال التي ما انفك اليسار المتطرف يجر إليها البلد قبل الثورة وبعدها، كلما فقد معركة فتح أخرى، أخفى اليسار جوهره التشبيحي المعادي للديمقراطية التمثيلية لأنه غير قادر على الفوز بشيء بواسطة الصندوق الانتخابي لكنه ومنذ ما قبل الثورة بزمن طويل اتخذ النقابة وسيلة لخدمة أجندته السياسية سواء بإخضاعها وقبض الثمن (زمن بن علي) أو التصعيد وفرض الشروط (بعد الثورة) ويردف ذلك بعمل إعلامي متقن، فالنقابة منزهة عن كل الأخطاء وهي خط الدفاع عن الفقراء ومركز الوطنية والنضال القومي.

كثير من الناس يعرفون زيف هذا الخطاب وكيف أن النقابة خانته في محطات كثيرة ولكن اليسار حوّل النقابة إلى أداة رعب وطني بل وسيلة تعذيب لشعب عاجز وجاهل وعلى منوال النقابة (الاتحاد) نسجت بقية النقابات غير المنظوية تحته مثل نقابات الأمن أو الأطباء، في تونس يمكن للمرء أن يعلن كفره بالله دون خشية أي عقاب لكن الاعتراض على أجندات النقابة يؤدي إلى الموت.

إضراب التعليم لا يخرج عن هذا السياق فمطالب النقابة توليفة غير جدية تؤكد الأجندة السياسية الخفية، فمطلب تعديل الزمن المدرسي (نظام الثلاثيات) وضعته النقابة مع الوزير السابق ولم يفرض عليها وقد أعلن الوزير الحاليّ العودة عنه إلى نظام السداسيين فكيف يظل في اللائحة؟

ومطلب القانون الأساسي القطاعي رفضت النقابة قبوله في زمن الترويكا وفضلت الاحتفاظ بمرجعية الوظيفة العمومية العامة ليمكن لها التصرف في النقل وهي أهم نقطة ينظمها القانون لتمارس بها ابتزاز الكادر التعليمي وبيع النقل أما بقية المطالب لا تستحق النظر، فنظام التقاعد في 55 مطلبًا خارج كل وعي بحالة بلد وصل أمل الحياة فيه إلى 80 سنة، وتبدأ سن العمل فيه بعد الثلاثين.

هل الحكومات على حق؟

نقد النقابة ورفض أجنداتها السياسية ليس انحيازًا لموقف الحكومة القائمة أو التي سبقتها، فالحكومات التي تداولت البلد منذ الثورة ارتكبت الخطأ القاتل وكررته وهو اعتبار الاتحاد شريك حكم وخضعت له كلما رفع سقف الابتزاز وأعلت خطاب الوطنية في مواجهة أطراف غير وطنية وغير ديمقراطية، من هنا بدأ الانحدار.

جهلت الحكومات وأولها حكومة الجبالي طبيعة القوة السياسية الكامنة داخل النقابة وأجنداتها وهي تعتقد أنها تتعامل مع شريك وطني يهمه أن تنجح الثورة، الجميع كان يعرف الفساد داخل النقابة وكيف كان يحميها بن علي فيورطها في الفساد ويحكم من خلالها.

ولكن الجميع بعد الثورة كان يرتعش مرعوبًا أمام النقابيين، ما سر القوة؟ لا قوة في الحقيقة ولكن مثلما يرتعب الأساتذة الآن أمام النقابة وهم غير مقتنعين بالمطالب والتحرك برمته، فإن السياسيين مرتعبون ربما على خلاف الرئيس الباجي الذي يملك ملفات خاصة لإخضاعهم وقتما يريد، ونرجح أن الملفات الخاصة ستخرج الآن من الأدراج لتعديل صوت النقابة العالي، لكنها مقاومة فساد بآخر دون موقف شجاع لوضع حد للمهزلة.

سيستمر هذا الأمر طويلاً حتى تحكم الأطراف السياسية الكامنة داخل النقابة وتفرض معاركها (وهي معركة واحدة في الواقع هي تونس الفرنسية، ففي أول الثورة بدا أن فرنسا تفقد رجالها في تونس وأن الريح ستكون غير مواتية لمراكبها، لكن الجائزة الكبرى عدلت الأجندات وأعادت موقعة الأطراف بحيث وجدت فرنسا حزبها وها هي تضبط الإيقاع.

في مشهد عام خاضع لأجندة متطرفة تعتبر التشبيح عملاً قوميًا سيكون هذا الكلام هو النشاز الوحيد، لكن من الأفضل أن ينتهي المرء واعيا بنهايته لا إمّعة يساق إلى موسم الجز، وعندما يفيق التونسيون على الكارثة جلية واضحة سيكون قد فات الوقت على اتخاذ قرارات شجاعة ضد العصابة النقابية.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات