القلق يخيم على السوشيال ميديا التونسية. الصحافة المكتوبة أغرمت أكثر من أي وقت مضى بالحديث عن الجرائم الفردية البشعة والقنوات التلفزية تفرط في تمييع المعنى لكن المنظومة تتراجع وفلولها تترك أسلابا في أرض المعركة وعلى المتفائل المزمن أن يلتقط الخيط المتاح للتحليل فالصدع اتضح ولكن الرصاصة الرحمة لم تجد مطلقها. وقد لا تجده وهو احتمال كبير فيكون انهيار وفوضى وقد يكون للفوضى أثمان باهظة لكن رب فوضى تجهز على من أحدثها فيعاد البناء بدونه فيكون أثرا بعد عين.
تجميد قانون المصالحة ودلالاته
تقدمت رئاسة الجمهورية بمشروع قانون للمصالحة مع رجال الأعمال وموظفي الدولة الذين تحوم حولهم شبه فساد بالتربح من الفساد أو بالمساعدة عليه. وظل المشروع معلقا فوق رقبة المجلس والشارع ينتفض ضده والمواقع الاجتماعية تحرض عليه حتى تم تجميده مؤخرا بذريعة تطويره لكن الذريعة المعلنة ليست إلا تغطية لفشل فرضه. لقد قرأ باعث النص الساحة وعرف أن لا سبيل إلى تمرير القانون خاصة وأنه مخالف لمبادئ العدالة الانتقالية التي تسهر على تحقيقها هيئة دستورية منتخبة من البرلمان. وتواصل عملها وقد أبرمت اتفاقات مصالحة من بعض رموز للفساد (صهر بن علي) عاد بمقتضاها مال عام إلى الخزينة (وخرج الرجل من دائرة التتبع القضائي) ولا يبدو أن هناك مبرر لعدم المصالحة مع آخرين طبقا لنفس المبادئ بما يجعل النص خارج السياق القانوني والمؤسساتي.
تجميد القانون يعني أن رجال الأعمال الذين أرادوه ووضعوا ثقلهم المالي وراء الرئيس من أجل تنفيذه وإنقاذهم يكتشفون الآن أن حصانهم العجوز لم يربح السباق وأن استثمارهم فيه قد فشل بل ارتد عليهم كلاعب يخسر ورقته الأخيرة في مقامرة لم يحسب نهايتها جيدا.
هذه الخيبة في الرئيس وفي حزبه تجعلهم الآن في حيرة من أمرهم فهم لا يرضون بالخضوع للعدالة الانتقالية ولا يقبلون أي نوع من أنواع المحاسبة ولم يبق أمامهم إلا الهروب بأموالهم بما يعني التسبب في انهيار اقتصادي كبير سينجون منه حتما لو أفلحوا ولكنهم سيقطعون على أنفسهم طريق العودة. فضلا على أنهم يعرفون أكثر من غيرهم أنه لن يمكنهم النجاح في بلد آخر إلا بالتحرك داخل شبكة فساد ولن يكون لهم شبكة خارج ما نسجوه في تونس.فالديمقراطية لا تقبل بهم وللبلدان الفاسدة فسادها.
أن الفاسدين في تونس يصلون إلى نهاية دربهم. ويقفون على حقيقة فاجعة أن الشارع انتبه لهم وأنه لن يتركهم وقد انكشفت في المدة الأخيرة عمليات فساد كبيرة بينت إنهم في حالة عجلة من أمرهم كسارق أدركه الصباح.
الموازنة الجديدة تكشف لعبة الفساد.
قدمت الحكومة نص مشروع الموازنة المالية لسنة 2017. ليناقش في الشهرين الأخيرين من السنة المالية الجارية. لكنها لم تضع في الحسبان رفد الموازنة باسترجاع الأموال المنهوبة لا في الخارج (وقد عجزت كل الحكومات دونها). ولا في الداخل لأن الحكومة ظهرت عاجزة مرة أخرى عن المساس بطبقة الفاسدين الذين أفرغوا البنوك وتملصوا من الضريبة على الشركات وتمتعوا بكل إعفاءات المجلة الاستثمارية القديمة (القانون 120 لسنة 93) لكنها ألحت فيها على الإصلاح الضريبي بوضع تراتيب صارمة تشمل المهن الحرة (كالأطباء والمحاماة). كما أدخلت جملة من المقاييس ستكون نتيجتها وخيمة على ذوي الدخل الضعيف وعلى الفئات الهشة.
من هذه المقاييس المجحفة إيقاف العمل بالإعفاء الضريبي على الأدوية المستوردة (أي إعادة فرض الرسوم / الأداء على القيمة المضافة ومعاليم الجمارك على السلع غير ذات النظير المحلي) ومثل هذا الإجراء سيمس طائفة من الناس واسعة تعيش في حالة تبعية لأدوية مرتفعة الكلفة وينعكس على كل موازنة صندوق التأمين على المرض وعلى وزارة الصحة العمومية التي يعرف الجميع أنها مقصرة في توفير العلاج الأدنى للجميع. فضلا عن بنية تحتية صحية تتهاوي بالقدم.
الفاسدون خارج إجراءات الردع المالي لكن المحامين والأطباء والموظفين (المنتظمين في نقابة) يتململون بعضهم بدون وجه حق لكنهم يصيرون أصحاب حجة عندما يضعون ما يفرض عليهم في مقابل ما يعفى منه غيرهم ممن أخلّ بالواجب الضريبي الوطني.
الجميع يقول الحكومة قدرت على الأضعف وارتعبت من الفاسدين الأقوياء. وهذا سبب رئيسي في المرارة السائدة في السوشيال ميديا. خاصة وأن الحكومة ارتكبت حماقة مطاردة بائعي المواد المهربة في حين تغاضت عن المهربين المصدر الحقيقي للسلعة المطاردة فهي كمن يقطع ذيل الأفعى موهما الجمهور بالتخلص من سمها. مسرحية لم تنطل. بل عرت جبن الحكومة الجديدة التي وضعت نفسها في خدمة الفاسدين.
هذا يضعها في موقف ضعيف لا يمكنها الخروج منه واثبات جدارتها وحقها في البقاء إلا بمطاردة رؤوس الفساد. ولن تفعل لذلك يبدو ركن قانون المصالحة على رف المجلس النيابي خطوة متراجعة لكنها كاشفة للضعف. وهي أيضا علامة على تراجع سياسي أكبر وعلى المتفائلين قراءته بحنكة وحسن تدبير.في أفق تلقف بيضة الثورة أن تقع ثانية بين أيدي الفاسدين.
أرقام جمنة المزلزلة.
بين عائدات ضيعة جمنة كما كانت تمنحها سلطة فاسدة إلى فاسدين (16 ألف دينار تونسي) وبين مردودها وهي بين يدي الأهالي (مليار و700 ألف دينار تونسي) أسقط في يدي الفاسدين فالفارق يرقى إلى مرتبة الفضيحة. مثل هذا الأمر كشف الشبكة المستفيدة من السلطة طيلة عقود طويلة. ونجاح الأهالي يعني أن معين الفساد انقطع في مكان ويمكن أن يتوسع إلى غيره (وقد بدأ التململ والاحتجاج أسوة بأهالي جمنة). لذلك سارعت بعلاج الأمر ولكنها وقعت في شر أعمالها. لقد اقتحمت على الناس بيوتهم فحجزت أرصدة الجمعية وبدأت مطاردة التاجر الذي أقدم على الشراء وهي تعامله الآن كلص.
الأهالي يرتبون ردود فعلهم القانونية والنضالية ولا يبدو أنهم مرعبون من سلطة لم تعد تخيف لأنها سلطة في نظرهم تحمي الفاسدين. سيكون من الخطل بمكان أن تستعمل ضدهم أدوات الردع لأن مستوى التعاطف مع تجربة جمنة لم يعد محليا بل عم كل القطر وقد تجلى في قوافل التضامن التي ذهبت تشتري تمورا من مصدرها تحفيزا للتاجر الشجاع.
إنهم يتراجعون
لأنهم لم يعودوا قادرين على التقدم فلا هم شجعان بما يكفي ليشرعوا في إصلاح اقتصادي يكرس العدالة الجبائية الفعلية ولا هم يجرؤون على استعمال القوة لفض الاحتجاجات (يكفي أن نتذكر مثال أرخبيل قرقنة الذي سيظل علامة في تاريخ الاحتجاج الاجتماعي المنتصر على الحكومة والشركات ) هذا فضلا عن فضائح حزب الرئيس الذي ينقسم كل يوم إلى شلل جديدة. بما جعلهم محل تندر المواقع الاجتماعية وجعل أنصارهم يتوارون من المقاهي العامة.
بقي الآن من سيتلقف بيضة الثورة من جديد. فلا تنكسر على صلد من الركاكة السياسية الحزبية التي جاءت بمثل هذه الحكومة. هناك أمل لكن لن يحققه إلا الشجعان.وفي هذه الفوضى المخيمة أنا لا استدل عليهم.