لعل الحرب أفضل. هكذا يفكر تونسيون كثر هذه الأيام. لعل الدّم يكون طهورا حاسما. فعذابات الحرب تصير عندهم محتملة إزاء عذابات السلم الكاذبة التي تمارسها السلطة السياسية والمعارضة على السواء على شعب كان يفتخر بسلميته فحوّلته السياسات إلى راغب في الحرب أو في أقل الاحتمالات سوءا حالما بتصفية أعدائه بعد أن فشلت كل التوافقات في بناء سلم أهلية حقيقية تنتج تنمية وثقافة وازدهارا. علما أن الكل عدّو الكل والكل يتمنى تصفية خصمه ومحو أثره رغم حديث التوافق المعلن وتمجيد الحالة التونسية الناجية من كل الفرق الضالة في عالم السياسة أحاول هنا تتبع ثلاث مظاهر من الاحتراب الصامت أو السلم الكاذبة الواعدة بالانفجار.
الحكومة كاذبة عاجزة.
يعود الاحتجاج الاجتماعي في بؤر كثيرة من التراب الوطني. في تطاوين في الجنوب وفي الكاف في الشمال بعد أن هدأ قليلا في قرقنة والبلد متوتر في انتظار انفجارات أخرى تجري إليه الحكومة بحفنة من الوزراء الكذبة يزعمون أن منجزاتهم قد فاقت كل من سبق ولكن الناس يمضغون الحصرم بعد كل زيارة. المنوال هو نفسه لا شيء تغير لأن الحكومة عاجزة دون تحريك الأوضاع حركة جذرية فعالة.
في مدينة الكاف(شمال غرب) معمل صناعة مكونات السيارات (كابلات التوصيل) أغلق وترك خلفه مئات الأسر بلا دخل يقيهم فقر الشمال الغربي التونسي. نموذج هذا المعمل هو عيّنة من العمل المناول الذي قامت به دولة بن علي عبر مجلة تشجيع الاستثمارات في الجهات بخلقها ما سمى بمناطق تشجيع التنمية (القانون 120 لسنة 93) الذي ينمح إعفاءات ضريبية وإعفاءات من المساهمات الاجتماعية التي تتكفل بها الدولة لصالحه نظير تشغيل الناس في المناطق الداخلية وعندما تنتهي فترة التمتع بالامتيازات يقوم صاحب المؤسسة بنقلها إلى منطقة أخرى من أجل امتيازات جديدة أو يغادر البلد. وهذا ما حصل ولا تقدر الحكومة له ردا فتذهب إلى المنطقة لتغطي هروبه بإجراءات فردية ذات طابع اجتماعي. لا يقوم رأس المال الوطني بالحلول محله لسد الفراغ ومساعدة الحكومة وهي التي عجزت في جانب آخر عن تطويعه والاستغناء به عن المستثمر الأجنبي .
الحكومة أسيرة طبقة رأس المال التونسي الجبان عن الاستثمار الطويل المدى بل إن الأمر أسوء من ذلك هذه الطبقة تبتز الدولة بشكل يومي وما قانون المصالحة التي تحاول فرضه عبر الرئيس والحكومة إلا علامة على لاوطنيتها فهي تكبّل البلد لترغم الحكومة عن التخلي عن ديونها التي نهبتها من البنوك قبل الثورة وبعدها.
إن الوضع السياسي الآن يعيش اختناقا كبيرا منذرا بانفجار ضد هؤلاء وهذه إحدى بوابات الحرب الأهلية المحتملة التي لا تنقصها إلا حادثة صغيرة لتنطلق والحكومة تعرف وتعجز وتموه وتهدد بالأمن أي احتجاج قاعدي من هذا القبيل باسم التوافق الأهلي وتمجيد نتائجه ولا نتيجة له في الواقع إلا بقاء الوضع على ما هو عليه وإن موهه إعلام الفساد المدفوع الأجر. هكذا تم تعويم المطالب الاجتماعية في التشغيل والتنمية في تطاوين وفي قبلي وفي قفصة. وننتظر المزيد ونتوقع الأسوأ.
أما المبادرة التنموية الاجتماعية الأكثر إبداعا والتي أحدثها الشعب نفسه وأعني بها حالة التصرف في واحة جمنة (جنوب) فالحكومة تتهرب من تقنينها وتحويلها إلى نموذج يؤسس عليه المزيد. بل قامت بإعدام صابة القموح في بعض الأراضي الدولية (منطقة الكريب سليانة وسط البلاد) في محاولة استرداد أراض دولية(ملك عمومي) بدعوى أن الفلاحين لا يدفعون معاليم كرائها من الدولة.
الحرب ضد النهضة متواصلة.
كنا اعتقدنا أن التوافق السياسي القائم بين حزب النداء وحزب النهضة الإسلامي قد فتح باب التوافقات الدائمة مع الإسلام السياسي وأن معركة الاستئصال قد صارت وراءنا في تونس وأن بقية فصول التنافس ستكون سياسية بحتة فحزب النهضة صار جزء ثابتا من المشهد والعلاقات معه (قبولا وتحالفا أو معارضة ومنافسة) ستكون على قاعدة الصندوق الانتخابي فقط لكننا فوجئنا بتشكيل جبهة سياسية جديدة على قاعدة الحرب ضد النهضة. أي أن العمل السياسي القادم في أفق الانتخابات البلدية لسنة 2017 ثم البرلمانية والرئاسية (إن حصلت سنة 2019) ستكون على نفس القاعدة في 2011 و 2014 تجميع الناس على قاعدة التعادي والحرب.
في تونس هناك من لا يزال يفكر ويتصرف على أن جزءا من التونسيين لا حق لهم في الحياة وأن مكانهم الطبيعي هو السجن أو التشريد. ورغم أن مكوّنات هذه الجبهة الجديدة غير متجانس أيديولوجيا فإن جامعها الوحيد هو الاستقطاب على قاعدة معاداة النهضة بخطاب تقدم ضد تخلف/ حداثة ضد رجعية/ أمن ضد إرهاب الخ من مقولات استنفذت ومجّها الناس لأنها مزيفة من المصدر. لهذا يستعاد كل خطاب الكراهية والتحقير والإقصاء. فلا أفق لمكونات الجبهة إلا بتجميع أعداء الإسلام السياسي الذين يعتقدون أن الرئيس الحالي قد خدعهم بتحالفه المضطر مع النهضة التي لم تختف من تلقاء نفسها وتريح الجميع من وجودها.
واليوم السادس من أبريل هو يوم ذكرى وفاة بورقيبة وقد بدأ الجميع يحج منذ الفجر إلى قبره بالمنستير ويستعيد حول قبره خطابه الكريه الاقصائي فهو الذي فتح النار أولا على أحزاب الإسلام السياسي بنفس مفردات الخطاب الذي يردده الحاجّون اليه ويؤلفون سياسيا على أساسه. ولا يعوز هؤلاء في هذه الفترة إلا قوة السلاح ليواصلوا إطلاق النار على النهضة والحقيقة أنهم لا يرون ولا يريدون أن يروا أن النار تصلى جميع التونسيين فتأخر تقدمهم إلى قضاياه الحقيقة في التنمية والتشغيل والتي عجزت النهضة نفسها عن فعل شيء ذي بال في إنجازها بصفتها حزبا أخر بلا برامج ولا مشاريع وإن تزيت بزي العدالة الاجتماعية ذات المرجع الإسلامي.
الحرب السورية تنيخ بكلكلها على تونس
المسألة الثالثة التي تجعل التونسيين في معسكرين متقابلين في انتظار الهجوم الماحق هي الحرب السورية. فقد انتقل ما حصل بخان شيخون في لمح البصر إلى تونس وانقسم التونسيون وهم منقسمون دوما حول ما يجري في تونس من مندد ببشار و جرائمه وبين مبرر لما حصل ومتشف في أطفال البلدة باعتبار أن بشار انتقم من الإرهابيين.
هنا أيضا لا أمل في تقارب وجهات النظر بين التونسيين بل إن حدّة الاستعداء المتبادل ينبئ بانفجار تصفيات على طريقة بشار ولا يؤجله حتى الآن إلا عجز أنصاره وقلة عددهم في تونس فخطابهم يتجاوز الاختلاف السياسي إلى رغبة في تصفية كل معاد لبشار في تونس.
الحرب السورية لا تجري في سوريا فقط بل لها أرض خصبة في تونس كما كان الأمر يوم انقلب السيسي في مصر فأنصاره انتصروا على الإخوان المسلمين (الإرهابيين) وغنوا في الشوارع بهجة وحبورا ورد الإخوان (النهضة التي هي صيغة تونسية من الإخوان) بدموع كثيرة و استعداد للشهادة لكن الديمقراطية كانت قد صارت وراء ظهر الجميع.
لم يقتتلوا بعد لكنهم يستعدون
هكذا هم التونسيون تحت ظل التوافق المغشوش الشعب ضد الحكومة وطبقتها الفاسدة والسياسيون ضد بعضهم بمراجع مختلفة بورقيبيون ضد إسلاميين ويسار ضد إسلاميين وبشاريون ضد إخوان مسلمين وفقراء مهمشين ضد الحكومة وطبقتها الفاسدة. وأحزاب ضد بعضها لولا العجز عن الخروج إلى الحرب. لكن تونس خارج منطقة المحبة والإصلاح لا أحد يستعيد أهداف الثورة ويجعلها برنامجا إلا قلة لم تفلح في حوز مساحة إعلامية ولا قدرة على التواصل مع الشارع الغاضب.
لذلك نكتب بخوف ووجل أن يحصل الانفجار المؤدي إلى التهلكة في أية لحظة وساعتها لن يقدر أحد على إيقاف نهر الدم إلا أن يكون معجزة وهذ ليس زمن المعجزات بل زمن الحرب الأهلية المتربصة بتمويل أجنبي جزيل. ولن نحوقل ولكن سنكتب "من كتبت عليه خطى مشاها" وربما ندعو مع الشيخ ابن أبي الضياف في فصول كتابه "الإتحاف" نسأل الله حسن العاقبة.