مفكر خارج الاستقطاب
في منزلة بين منزلتين هو الفقيد طارق البشري ...هو عند المصنفين الايديولوجيين الدغمائيين اسلامي اخواني مادام لا يدعو الى استئصال التيار الاسلامي و لكنه عند النخب المصرية و العربية الواقفة على نفس المسافة بين المدارس الفكرية السياسية الكبرى واحد من المجددين النقديين يستفيد منه كل المنتمين نقديا الى المدارس اليسارية او العروبية او الليبيرالية رغم كونه من كتاب و مفكري التيار الحضاري شانه في مصر شان الراحلين محمد عمارة و عصمت سيف الدولة و السنهوري و غيرهم ممن استطاعوا التموقع تأليفيا من موقع الاستفادة من كل روافد الفكر السياسي العربي الحديث و المعاصر عروبيا كان او يساريا او اسلاميا او ليبيراليا وطنيا .
طارق البشري الذي لم تكن علاقته متوترة مع ثورة يوليو بل كان من اهم المنتصرين لها حين وقوعها ظل بحكم تكوينه و ميوله الحقوقي و اختصاصه القانوني و القضائي متمسكا بالدعوة الى الديمقراطية و الصراع السلمي القانوني و داعية لتفكيك الاستبداد العربي بروح تجديدية للفكر الاسلامي و تصور مقاصدي تنويري للشريعة و حاول التنظير لتيار الامة و مشروعها الوطني الجامع ( تيار الامة عنوان اخر كتبه ) و كانت له مواقفه الناقدة للدولة العربية التسلطية و لكنه كتب في نقد التجربة الاخوانية و نزوعاتها الماضوية و القطبية دون وقوع في نزعة الاقصاء و الاستئصال و لكن دون رحمة او مجاملة لكل انحرافات شمولية في جميع تيارات الامة القومية و اليسارية و الاسلامية لذلك حافظ على مكانته و احترام جميع العاملين العالمين في الشأن العام بعيدا عن تصنيفات " عوام " المنتمين للتيارات الاساسية في الامة .
كان نائبا لرئيس مجلس الدولة و ساهم في التعديلات الدستورية بعد ثورة يناير و تظل كتاباته في علاقة الدولة العربية الحديثة و نشأتها و تضخمها و علاقتها بمجتمعها الاهلي من اهم الاسهامات في الفكر السياسي العربي المعاصر .
كانت له مواقف متميزة في احلك فترات الاستقطاب بين الاخوان و خصومهم اثر تولي الرئيس المرحوم محمد مرسي لرئاسة الدولة و انقلاب السيسي و من اشهر ما كتب هذه الكلمات التي نوردها للاطلاع و لما فيها من شبه بين المنتصرين للديمقراطية و الرافضين للانقلاب عليها بعد الربيع العربي في كل الدول التي شهدت ثورات و استقطابات بين الاسلاميين و خصومهم ...يقول المرحوم طارق البشري في سياقات 2013.
" نحن الآن لسنا إزاء معركة بين الإخوان المسلمين فى السلطة وبين غيرهم من معارضيهم، لأن هذه المعركة كانت يمكن أن تحسم في ظل دستور 2012 بانتخابات مجلس النواب وما يفضى إليه من تشكيل وزاري يعكس حكم التأييد الشعبي الصحيح لكل فريق من الفرقاء المتصارعين وهو ما كان من شأنه دستوريا أن يقيد سلطات رئيس الجمهورية وفقا لنتيجة الانتخابات.
ولكننا إزاء معركة تتعلق بالديمقراطية وبالدستور، وهو ما انتكس بفعل قيادة القوات المسلحة في الانقلاب الذى حدث أخيرا. واستغلت هذه القيادة رصيدا شعبيا معارضا للإخوان المسلمين لتسوقهم جميعا إلى تأييدها في معركة القضاء على روح ثورة 25 يناير 2011 والديمقراطية الدستورية، ولتعود بنا إلى الوراء وإلى نظام حكم استبدادي غاشم.
وأنا أتصور أن القوات المسلحة ذاتها برجالها وناسها بريئة من هذا الصنيع، لأنهم نزلوا إلى الشوارع بأمر القيادة وسيطروا على مرافق البلاد لا للقيام بانقلاب عسكري، ولكن لتأمين منشآت الدولة وجماعة المصريين في حراكهم المرتقب في 30 يونيو وحتى لا يندس بينهم مخربون، ثم استغلت القيادة هذا النزول لترتب عليه آثارا سياسية أخرى تتعلق بهدم ما يشيد المصريون من نظام ديمقراطي دستوري. ولم يدرك قائدو الانقلاب انهم بتعطيلهم الدستور وعزلهم رئيس الجمهورية قد أسقطوا الوزارة التي يكتسب القائد العام شرعية أوامره التنظيمية من وجودها بحسبانه وزيرا بها.
وعلى الناس أن يدركوا أن سعيهم الآن لا يتعلق بإعادة حكم الإخوان، ولكنه يتعلق بالدفاع عن الدستور وعن النظام الديمقراطي، وأن يصطفوا اصطفافهم السياسي لا بين إخوان مسلمين ومعارضيهم، ولكن بين مدافعين عن الديمقراطية وبين مؤيدين لحكم الاستبداد.
وإلى من يسعون الآن للتقريب بين وجهتي النظر، وقد سألني كثيرون عنها وطلبوا منى الحديث عنها والمساهمة فيها، إلى هؤلاء أقول إننا أمام معضلة، وهى أن من يقوم بانقلاب عسكري يكاد يستحيل عليه العدول عنه لأنه قد صار مصيره الشخصي متعلقا بمصير الانقلاب، وإن من يريد التنازل عن بعض الأوضاع الدستورية الديمقراطية ليتفادى إصرار القوة الانقلابية المادية، من يريد ذلك إنما ينشئ سابقة دستورية خطيرة تهدد النظام الديمقراطي دائما، وهى إمكانية أن تتحرك قوات في أي وقت لفرض أي مطلب في ظل أزمة سياسية فعلية، مما عرفته تجارب دول أخرى فى تركيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا لعشرات من السنين.
حفظ الله مصر من هذا المصير.."