من حق الكثيرين بمن فيهم بعض الفاعلين في جبهة معارضة الانقلاب او مقاومته أن يطرحوا هذا السؤال في سياق ما يرونه من " تصميم " و" اصرار" سلطة الامر الواقع على فعل ما تريد في جميع المجالات السياسية والحقوقية وفي مجال القرارات الاقتصادية والاجتماعية دون ان تجد ممانعة من "مؤسسات الدولة" ودون ان يظهر ما توقعه عدد من المحللين من ارتفاع منسوب الاحتجاج الشعبي .
الجواب على هذا السؤال في تقديري هو " لا كبيرة " . اذ لا شيء يوحي بأن ما نعتبره انقلابا قد تحول الى منظومة بقاعدة سياسية وحوامل اجتماعية ومشروع حكم يمكن التعاطي معه كسلطة مستقرة . العكس هو الأصح فالانقلاب مازال " مسارا " متخبطا مختزلا في خطاب فرد أوحد يمارس محاولات " المرور بقوة " وترسيخ سلطته دون برنامج او مشروع واضح غير الهدم والتفكيك لكن خطاباته الغاضبة على خصومه في الداخل والخارج تؤكد شعوره المتأكد ان وضع حكمه رجراج غير ثابت .
كل مقومات استقرار سلطة 25 غير متوفرة :
الانجاز الاقتصادي والاجتماعي الذي اقام عليه الانقلاب مشروعية سرديته مازال غائبا بل ان الاجماع حاصل على ان الانهيار - في غياب الحلول والخبرة وفي ظل الاجراءات العبثية- هو المصير المنتظر للاقتصاد التونسي .
مقاومة "الفاسدين" و محاسبة " من نكلوا " بالشعب التونسي واستعادة " الاموال المنهوبة بمليارات المليارات " وفتح ملفات "المجرمين و الخونة " شعارات مكررة لم يتحقق منها شيء . فالسجون فتحت فقط لمعارضي السلطة بملفات خاوية في مقابل استفحال سوء التصرف في مقدرات البلاد وارتفاع منسوب الفساد ومواصلة اباطرة اقتصاد الريع الهيمنة على مفاصل الثروة .
سردية " السيادوية " و " استقلال القرار الوطني " التي رفعها 25 (ويواصل الوظيفيون من الاحزاب والمحللين -المتطوعين بظهورهم المركوبة- ترويجها لقواعدهم) يتبين انها مجرد اكاذيب ينفيها الواقع حيث انتهت البلاد الى وضعية " صفر سيادة وطنية " وتحولت الى "ملف" على طاولة الصراعات الدولية في الاقليم تتهافت على الاستثمار في ضعفها وازمتها قوى الاستعمار القديم والقوى الدولية الصاعدة لأخذ حصتها من اقليمنا المضطرب والمستباح في غياب دولة المواطنة و الحكم الديمقراطي الرشيد الممتنع عن الابتزاز بالاستقواء بإرادة شعبه .
شعار انقاذ " الدولة الوطنية / دولة الاستقلال " من الذين يريدون تفجيرها من الداخل عبر انهاء العمل بدستور 2014 وطرد " الاخوان " و ايقاف " ربيع الخراب " كان هو الشعار الذي جمع به الانقلاب في اول شهوره بقايا المنظومة النوفمبرية من "اكاديمييها وكلاب حراستها" كما جمع به الاحزاب المجهرية الاستئصالية المتضررة من صندوق الانتخابات الحرة واغرى به ادارة طيعة واجهزة تبحث عن استعادة هيبتها بعد عشرية انسياب السلطة وتوزعها .ولكن الوقائع تثبت لهؤلاء حاليا ان الخطر على الدولة الوطنية ومؤسساتها اصبح أكبر وافدح في ضوء ما يرونه من طبيعة التعيينات ونوعية الأنصار والمسؤولين و الطبقة السياسية ممن تعتمدهم سلطة 25 .
كل المؤشرات الاقتصادية والسياسية تؤكد اذن ان وضع السلطة القائمة لا يذهب الى الاستقرار، بل ان التخبط ومزيدا من الامعان في العبث وبالتالي مزيدا من العزلة والتأزم هو ما ينتظر البلاد وسلطتها الحاكمة في الاشهر القادمة .
لكن السؤال في المقابل : هل ان ضعف السلطة وحزامها ومشروعها يعني في المقابل قوة معارضتها وقدرتها في القريب العاجل على تحقيق مطالبها في استعادة المسار الديمقراطي واغلاق قوس الانقلاب ؟
الجواب بطبيعة الحال ان لا شيء يؤكد ذلك. الوقائع تقول ان المعارضة تتلقى الان ضربات موجعة عبر الايقافات الظالمة والتضييق المتصاعد على الحريات والتعبير فضلا عن العزلة النسبية عن عموم الناس . ورغم ان قدرة المعارضة على التعبئة البشرية تفوق قدرات السلطة الا ان الصمت الشعبي من جهة ومسك السلطة بأجهزة الدولة وقوتها الصلبة يجعل هذه المعارضة اليوم في وضع استضعاف بدأ ينشر اقدارا من الاحباط بين انصارها وقواعدها .
سلطة الامر الواقع لا تستقر ولا تنجز ومعارضتها لا تحقق انتظاراتها هذا ما نسميه حاليا بتوازن الضعف او توازن الازمة .
لكني أرى ان ضعف السلطة وازمتها سيفضي بالضرورة الى استمرار تأكلها فهي لا تملك حاليا مقومات الوعي بأزمتها في ظل صممها ورفضها للحوار مع خصومها ومع الاطراف الاجتماعية وكل انغلاق مصيره التأكل والتصدع .
اما ازمة المعارضة ومؤشرات وهنها فهي في رأيي يمكن تجاوزها لو تناقشنا بما يلزم من استماع متبادل في اسباب الضعف الموضوعية والذاتية . الخيار الكفاحي والصمود المستمر على ارضية المطالبة باستعادة الديمقراطية هذا امر لا تراجع عنه وقد حققنا فيه كل ما يجب ان يتحقق على امتداد عام واكثر تم فيه فرض التوازن وتثبيت محور الصراع الرئيسي : ديمقراطية / انقلاب . لكن النقاش اليوم يجب ان يتحول حول سبل استجماع شروط النجاح المضمونية والهيكلية لفرض البديل الديمقراطي عبر تحويله الى عرض سياسي جامع للشعب وللنخب الوطنية ومطمئنا للفاعلين والمؤثرين في فعل التغيير .
هذا نقاش لم يعد منه مناص منه ودونه سيكون الاستمرار في الازمة وقد تتغير السلطة خارج ارادة المعارضة الوطنية وببدائل لا ترضاها .وهذا حديث يطول قد نستأنفه في مقال لاحق .