تأملات شبه فكرية .
مجتمعات القوة / ما بعد الخير والشر .
مجتمعات الخواء ما دون الخير والشر .
كثيرا ما تتجه التحاليل في تفسير الانقسام السياسي الى مبررات أخلاقوية ينتصب فيها البعض على كراسي "القديسين" الذين يقيمون " الاخر الشرير " .
رأيت من يقول : " نحن منقسمون لأن هناك مؤدلجين والايديولوجيا شر مطلق"( ويفترض القائل أنه بريء من التأدلج فقط لأنه قال انا لست مؤدلجا).
وهناك من ذهب الى اعتبار الديمقراطية لا تناسبنا لأننا متعصبون أو لأن سياسيينا يحبون كراسي الحكم ولأن ما يحركهم هي المصالح .على اساس ان المجتمعات الديمقراطية هي مجتمعات الانسان اللامتعصب والانسان الزاهد في السلطة .
يجب ان نعرف بأن الديمقراطية والعقود الاجتماعية نشأت اساسا لتنظيم علاقات السلطة في مجتمعات البشر باعتبارهم كائنات شريرة ( توماس هوبس ) او باعتبارهم كائنات خيرة ستتحول الى الشر حين لا تحصن نفسها بعقد اجتماعي لان المجتمع الانساني ليس مجتمع الهة ( روسو ) .بمعنى ان الديمقراطية لم يتم اختراعها الا باعتبار ان مجتمع الانسان ليس مجتمعا من الالهة .
في المجتمعات الغربية الديمقراطية يظهر الانسان بنفس خصائص الانسان العربي فهو شرير بمقدار وخير بمقدار ، وهو مؤدلج مثلنا ، ومتعصب ، ومحافظ أو انحلالي ، حسود ومنافس ، كاره ومحب ، منافس على الكراسي ومحب للمال والهيمنة .بل هو عنيف مثلنا وتافه ايضا ومادي ومتحيل كما نبدو نحن تماما وله ايضا فايسبوك مليء بالتنمر والضحالة والتهجم على المختلف ..لكنه كائن مطيع للقانون وخاضع لسلطة الديمقراطية التي يخاف ان يفقدها حتى لا يلتهمه شبيهه الاخر / الذئب .
مالذي يجعل اذن الديمقراطية تنجح في مجتمع ولا تنجح في اخر ؟ هل يتعلق الامر باختلاف في الطبيعة الانسانية ؟
طبعا لا ..
الامر ببساطة هو ان المجتمعات الديمقراطية وصل فيها صراع القوة بين افراد المجتمع وطبقاته وفئاته وطوائفه وتياراته الى مرحلة جدية لأنه صراع بين " قوى حقيقية".
تكتشف هذه القوى في لحظة معينة ان تواصل الصراع بينها سيؤدي الى فنائها جميعا .
الخوف من الموت يؤسس للتعاقد او التسوية التي تنظم توزيع السلطة كما يقول هوبس بمعنى يصبح الدفاع عن الميثاق( pacte وهو مشتق من السلام paix باكس) اي الدفاع عن الحكم التعاقدي سببه الخوف من ان يقتلني الاخر ..اما عند روسو فالامر يتعلق بالخوف من فقدان الانسانية ( الخيرية ) حين نفتقد الحرية التعاقدية اي الديمقراطية .
في المجتمعات الخاوية / الضعيفة يكون غياب توازن القوى دافعا الى عدم الحاجة الى انتاج تنظيم " تعاقدي " للحكم لان هناك قوة اكبر من الاخرين ستحكم وسيخضع الاخرون ( الغلبة ) بما يضمن " الامن والسلام " دون حاجة الى تعاقد .
عندما يبلغ المجتمع الانساني درجة من الانقسام القائم على تعادل القوى القادرة على الاضرار ببعضها بعضا الى درجة الافناء المتبادل( توازن القوى) تنتج الديمقراطية باعتبارها حلا للأشرار الاقوياء لا مجرد قرار لمجتمع من الاخيار المفترضين ( هذا هو الفرق بين مفهوم السياسة في الفلسفة السياسية الحديثة وفلسفة المدينة الفاضلة).
فشل عمليات الدمقرطة في العالم العربي لا يتعلق بأسباب في طبيعة الانسان العربي ( متخلف ..شرير ...مؤدلج ..الى اخره من التفسيرات الطوباوية ) بل سببه غياب القوى ( القوة) السياسية المعادلة لاستبداد النظام /الدولة ما بعد الكولونيالية والتي تم دعمها خارجيا باستمرار لتتمكن من تفكيك كل ما يتشكل من قوى ( داخل المجتمع ) بما يمنع قيام الصراع المتوازن الذي يهدد استمرار الحياة لو لم يتم حله بالديمقراطية .
في مرحلة الربيع لم يتعلق الامر بتشكل طبيعي لهذه القوى بل تم اصطناع وضعيات صراع موجهة هدفها مجرد اعادة انتشار مؤقت للقوة لإنجاز تغيير في هرم السلطة مما جعل القوس " الديمقراطي " مجرد نتاج " صراع وهمي بين قوى وهمية " يتم اغلاقه سريعا بقرار من القوة الحقيقية القائمة ( الدولة ) بعد ان ترتب وضعها الجديد ويتم هذا الاغلاق بسهولة اي بمجرد تحجيم " القوى الوهمية " التي تم استعمالها وظيفيا لإعادة الترتيب.
الديمقراطية تظهر وتستمر عبر الصراع الحقيقي بين القوى الحقيقية في المجتمع الانساني الذي يضمن استمراره بتنظيم ادارة " الشر " داخله عبر " القانون " ليصبح مجتمع "خير" . دون ذلك لا يتعلق الأمر الا بصراعات خاوية بين قوى خاوية لا تنتج بعدها الا الخواء في مجتمعات ما دون الخير والشر .
بناء المجال السياسي العربي عبر بناء " قوى حقيقية قوية " على الارض ..ذاك هو طريق بناء الديمقراطية .. غير ذلك مجرد شعبويات متقابلة في يد " قوة الغلبة الدولتية " .