كل القضايا الصحيحة وحتى النبيلة المطروح معالجتها في تونس الصاخبة تتحول الى موضوع تهديد للاطمئنان والمواطنة في مقاربة السلطة الحالية ومع انصارها الشعبويين المنفلتين من عقال عقولهم الى غرائز الانتقام من الثورة والانتقال الديمقراطي والنخبة الحرة والطبقة السياسية :
الانتقال المتعثر الى الديمقراطية وسلبياته من اغفال الانجاز الاجتماعي والاقتصادي وتداخل المال بالسياسة وتناهش الطبقة السياسية كان علاجه بافتكاك انفرادي للسلطة ودوس للدستور المجمع عليه وطنيا وتفكيك للمؤسسات الشرعية والهيئات التي تبقى رغم كل شيء مكاسب في طريق ديمقراطية ناشئة كنا نستطيع اصلاحها بمزيد من الديمقراطية لا بالانقلاب عليها وقتل السياسة بالقوة العارية للدولة وترسيخ حكم الفرد وعودة القبضة الأمنية وخنق الحريات وتنامي نزعات الاستئصال .
الفساد والبيروقراطية البائسة في ادارة مترهلة وهيمنة اللوبيات واقتصاد الريع والزبونية وتعطيل الانتقال السياسي والسيطرة على احزابه واعلامه وهيئاته ومؤسساته بالمال الموجه كان من المفروض ان تكون الحرب عليهما ( الفساد والبيروقراطية ) بتقوية الدولة عبر مزيد التطوير التشاركي للقوانين والمعالجة البناءة لمنابع الخلل ببناء منظومة حوكمة رشيدة ولكن الامر تحول الى صيد ساحرات واستثمار للمشاعر الشعبوية ليصبح المتهم هو عشرية التأسيس للحرية والديمقراطية وليصبح المجرم هم السياسيون الخصوم في المطلق وانصار الحكم الدستوري ودولة المؤسسات ( على بعضهم في نفس الشكارة ) في مغالطة كبيرة لوعي الناس ولتصبح الحرب العبثية مهددة للدولة وطاردة للاستثمار ومعطلة للانتاج و مهددة بالتالي لارزاق الناس واقواتهم .
مقولة السيادة واستقلال القرار و " التحرير الوطني " وهي فعلا مطالب حقيقية يجب حقا ان تقترن بكل انتقال من الاستبداد التابع الى النظام الديمقراطي الوطني المستقل المعبر عن ارادة الشعب وطموحات النخب الديكولونيالية لكن هذه الشعارات النبيلة تتحول للأسف مع الشعبوية العمياء الى خطاب تحريضي على كل القوى الديمقراطية وعلى كل انصار الحداثة الكونية في حرب يخوضها على صفحات الكراهية وبلاتوات الدعاية السوداء انصار القديم الاستبدادي ومرضى الايديولوجيات الشمولية ممن لم يعرف يوما عنهم انتصار للحرية ولا للاستقلال الوطني بل عرفوا في كل العهود بالارتهان الدائم لنظم الثورات المضادة واعداء الشعوب والقوى الدولية المعروفة باحتقارها للعرب والمسلمين وزعم استحالة رسوخ الديمقراطية في عالمنا المستضعف الذي يجب ان يبقى حديقة خلفية للمستعمر القديم ونخبه العميلة .
مقولة المحاسبة وفتح ملفات نهب ثروات البلاد من اقلية جشعة واقتحام ملفات الارهاب الاسود المدمر وبث الفتنة في اوساط شعبنا المسالم في العشرية العسيرة هي فعلا مطلب لكل وطني غيور ولكنها تتحول في اجواء الشعبوية الاستبدادية وانصارها الخطرين الى فبركة تهم الارهاب للخصوم السياسيين وتهم العمالة والتآمر لانصار الحرية مع مخالفة اجراءات التتبع والايقاف وتحويلهم الى وسيلة رفع لنسب المساندة بين انصار السلطة ووصم كل المخالفين بأبشع النعوت والحكم عليهم في صفحات التحريض وفي خطابات الحاكم قبل ان يقول القضاء المستقل العادل كلمته .
عندما تصدينا للانقلاب على دستور 2014 واغلاق المؤسسة التشريعية بالقوة القاهرة للدولة والتأويل المتعسف للفصل 80 لم نكن نعتبر ان عشرية الانتقال هي عشرية النجاح ولم نكن نتوقف اثناءها عن نقد اداء الطبقة السياسية بتسوياتها المغشوشة بشروط القديم المستبد الفاسد وكنا نحاول في كل محطاتها المفصلية بناء الالتقاءات الوطنية الكبيرة على قاعدة الاصلاح والانجاز واهداف الثورة بل بنينا املا سياسيا جديدا في انتخابات 2019 وناصرنا قيس سعيد في الدور الثاني وبادرنا ( انا ورفيقي جوهر الذي يقبع اليوم رهن الاعتقال ) للمساعدة على تشكيل حكومة وحدة وطنية على قاعدة اهداف الثورة التي بنى عليها الرئيس ومجموعته السياسية خطابهم وكنا نرى في رضا المكي وسنية الشربطي مثلا حلفاء ممكنين في استئناف التأسيس الوطني الديمقراطي لدولة الشعب الذي يريد حقا انجازا واصلاحات وقد كان التعاون والتفاعل مع مؤسسة الرئاسة ايجابيا في المرحلة الاولى حين كان فريق الديوان والمستشارين من الاصدقاء الديمقراطيين والوطنيين المنحازين للثورة والانتقال قبل ان ينسحبوا لترك مكانهم الى من تعلمون ممن اكتشف الرئيس نفسه انهم بولاءات اخرى .
ولكننا منذ 25 جويلية 2021 قلنا اننا نرى ان الاسلوب الفردي الخشن في ايقاف المسار الديمقراطي لن يتمكن من الاصلاح الحقيقي والفتح الصادق للملفات والمعالجة المجدية للنواقص وحتى للخطايا والاخطاء لان اسلوب التفرد سيفتح الباب للمتربصين بالحرية وانصار الاستبداد القديم وشعبويي الرداءة لتدخل البلاد في هذا المأزق الهيكلي الخانق الذي يوضع فيه اليوم مستقبل البلاد امام مخاطر الانحدار الى مرتبة الدولة الفاشلة بعد ان كان في وضع الديمقراطية الناشئة بكل عيوبها ومكامن ضعفها .
وقتها وفي الاشهر الاولى من الانقلاب على دستور ومؤسسات الانتقال كان كثيرون ممن ثابوا اليوم الى رشدهم يعتبرون التصدي ل" مسار 25 " مجرد انتصار للطبقة السياسية الحاكمة سابقا ومجرد خدمة لعشرية لم نكن يوما من صانعي قراراتها ولا من المستفيدين من ريعها كما كان العديد ممن اكلوا من قصعتها الى حد التخمة ثم جرموها باسم الانتصار للتصحيح .
ان تشابكات عديدة يجب ان تفكك وتعقيدات كثيرة يجب ان تبسط ومغالطات اكثر يجب ان تصحح في حوار وطني كبير قبل ان يصبح التدارك مستحيلا في اجواء شعبوية التافهين والفاشيين المتعطشين لعهود الاستبداد ومنظومات الهيمنة على مربعات النفوذ المادية والرمزية لصالح المسيطرين القدامى داخليا وخارجيا.