حين يصبح الحزبي المثقف مكسبا عموميا : السياسة كفكر و انتاج معرفي
لم يفاجئني اعجاب كثيرين برد الصديق محسن السوداني على مقال الصديق سالم لبيض في نقد الغنوشي. بحكم معرفتي بالصديق محسن وهو من زمن كان النجاح في شعبة الفلسفة لا يحققه الا من سكنه حب الحكمة وصبر على تصفح الاف الصفحات في مكتبات المراجعة والبحث.
وأنا أقرأ لمحسن سألت: مالذي يجعل في الاسلاميين كنشطاء سياسيين أكثر عدد من الاقلام المنتجة للمعنى مقارنة بغيرهم من النشطاء. (أتحدث عن كُتاب ومثقفي الاحزاب).
بإحصائية سريعة على الشبكة الافتراضية او المواقع الالكترونية ومراكز الدراسات تبدو اغلبية الاقلام المنتجة لمقالات ودراسات جادة وذات قيمة علمية في الفكر السياسي وتحليله هي اقلام اسلامية أو نشأت في ساحة الظاهرة الاسلامية منذ الثمانينات.
في مقابل ذلك وبقدر ما تعج الساحة الاعلامية والسياسية باليساريين والقوميين والليبيراليين فان الاقلام الحزبية الجادة من هذه الاطياف والتي تنتج نصوصا جدية يمكن أن تقرأ في الفكر السياسي قليلة تُعد على الاصابع وفي هذه القلة نفسها لا تعثر على الجديد الا لدى من حسم أمره في مراجعة علاقته بماضيه الحزبي والتنظيمي القومي او اليساري فأصبح انتاجه لافتا لانتباهنا كقراء باحثين عن الدسم المهم.
السبب الاول في رأيي هو هيمنة هاجس الرغبة في اثبات "الراهنية" أو "المعاصرة" أو "البحث عن شرعية المعرفة" لدى الاسلاميين المطالبين من غيرهم (مما ولد لديهم طلبا لأنفسهم) بتأكيد انغراسهم في زمنهم معرفيا وتبرير الحاجة إليهم كاستحقاق تاريخي ومعرفي وعلمي فحولوا المطالعة والتكوين والبحث والكتابة جزء من نشاطهم اليومي.
في المقابل هيمن الكسل المطمئن لليسار و القوميين منذ عقود لما أصبحت "الدولة الوطنية" تنجز مكانهم "ما يريدون التفكير من أجله" فهي تنفذ رغباتهم في "التحديث" المغلوط و تتكفل بمواجهة خصومهم الفكريين بالسجن و الاستئصال و الأكثر من ذلك أنهم لا يعيشون معها أدنى مظاهر الاحباط أو الاحساس بالخيبة الذاتية و عدم التحقق الذاتي و الموضوعي.الاحباط و الألم من الدولة العربية الفاشلة هو الذي يولد عادة للمثقف الاحساس بضرورات المراجعة.
الغريب ليست خيبات الدولة الوطنية التي ستدفع اليسار والقوميين الى المراجعات بقدر ما دفعتهم خيبتهم مع ثورات شعوبهم حين استفاقوا ان هناك مجتمعا اخر وافكارا اخرى نشأت في غفلة منهم وهم يكررون سردياتهم القديمة في كنف الدولة بكسل فكري دون "مطالعة" ولا "انتاج كتابي" جديد غير الكراريس القديمة.
ثانيا وعلى غير ما يتوهم قصيرو النظر الابيستيمولوجي فان الظاهرة الاسلامية التونسية لم تنشأ في عشرينات القرن الماضي ضحية للاطمئنان الاخواني كما يظن البعض بل انها نشأت وتصلب عود طلبتها وتلاميذها واساتذتها في اواخر السبعينات اي في اجواء ظهور محدودية كل السرديات العربية الكبرى اخوانية وقومية وماركسية ونشأة "النقدية العربية الجديدة"(الحابري وحنفي وتيزيني الخ).
من يعرف الساحة الاسلامية التونسية وقتها سيذكر اقبال طلابها وتلاميذها على التهام كل ما يكتب يمينا ويسارا بحثا عن "الهوية الفكرية" ولعله لهذا السبب بالذات لم ينتج "التنظيم الاسلامي التونسي" من احشائه الا على يساره فكريا لا على يمينه ارهابيا كما وقع في تجارب اسلامية عربية.