أزمة البلاد تحت حكم انقلاب 25 جويلية لم تعد مجرد كلام مرسل للمعارضين له بل أصبحت حقيقة يجمع عليها مساندوه بجميع انواعهم من أحزاب تقليدية( تصريحات حزبي حركة الشعب وعبيد البريكي) ومن حشديي وفتوات المدونين والصفحات المحمولة على تيارات العنف الرمزي لما اطلق عليه ب" مشروع 25 جويلية " .
هذه الحقيقة العنيدة أكدها تطور الموقف السياسي لأكبر التنظيمات الاجتماعية والنقابية التي كانت السند الموضوعي للانقلاب :
اتحاد الشغل يعبر الان على لسان اشد قيادييه تحمسا لقتل المسار الانتقالي عن امتعاضه من الوضع الاجتماعي والاقتصادي الخانق دون ان تجد المنظمة الاكبر في البلاد أكثر من الاهمال وبداية سياسة التهميش الممنهج في اتجاه اجبارها على القبول بتوصيات الجهات المالية الدولية .
معركة النقابات الامنية توحي بوضعية انقسام حاد وازمة مركبة تعيشها منظومة الانقلاب داخليا و تأكيد واضح( يضاف الى وضعية اتحاد الشغل وحالة احزاب 25) على اتجاه النواة الصلبة في انقلاب 25 جويلية الى التخفف من كل اللواحق من احزاب وقوى و مراكز نفوذ حاولت فرض " شراكتها " على قيس سعيد .
ازمة الاداء الاجتماعي والاقتصادي للانقلاب تتظافر اليوم مع ازمته مع حزامه السياسي والمنظماتي الذي امعن في احتقاره في مرحلة كتابة الدستور و" موكب " امضائه مرورا بتجديد كادره السياسي في الدولة عبر التعيينات المستمرة بعيدا عنهم ووصولا الى اقرار القانون الانتخابي والذي يتوقع ان يعزلهم فيه كغيرهم من القوى السياسية التي اثثت العشرية الماضية .
وضعية " القبول الشعبي " التي يعتمدها الانقلاب باستمرار لتأكيد "مشروعيته" دون حاجة الى " الشرعية الشكلانية والقانونية " تبدو متجهة نحو التآكل في ظل ازمة السوق والتزود بالمواد الاساسية وتهري المقدرة الشرائية وسقوط كل الوعود الشعبوية التي رفعت أسقفها في العامين الماضيين الحشود والاحزاب الوظيفية في اطار التعبئة التي تمت لإسقاط " العشرية السوداء " .
على الصعيد الدولي لا يبدو الانقلاب في وضع مريح بعد الاداء الديبلوماسي الكارثي في قضايا مختلفة رغم ان " النازلة التونسية " تبدو اليوم تفصيلا صغيرا في القضايا الكونية الكبرى .
لكن توفر كل مقومات الازمة لا تعني بالضرورة وصول 25 جويلية الى مشارف " السقوط " كما يحاول الايحاء بذلك كثير من " نشطاء " مناهضة الانقلاب .
اوراق كثيرة مازالت في يد الانقلاب :
اولا : اللاعبان الرئيسيان في توجيه مسار الأحداث الوطنية في كل مراحل تاريخ تونس الحديثة اي " الدولة / النظام / الاجهزة " و اللاعب الدولي مازالت تريد انجاز جملة من "الجراحات الموضعية القاسية " بهذا القوس "الاستثنائي" رغم الصعوبات التي تجدها في " مرافقة " منظومة 25 جويلية وتناقضاتها وصعوبة مراس رأسها .
لا يبدو الوضع الاقليمي وتداخل مصالح الفاعلين فيه مؤهلا للقبول برجات اخرى في المسار التونسي قبل الفراغ من ترتيب مسارات " مجاورة له " فضلا عن هشاشة المشهد السياسي التونسي الذي يعسر امكانية المراهنة على اعادة المبادرة لفاعليه .
ثانيا : الحديث عن غضب شعبي يؤذن بتوفر شروط "الانتفاض" الذي يعيش بعض النشطاء على " أمل انتظاره" لإنقاذهم من وضعية " العجز السياسي الذاتي" هو حديث يحتاج الى كثير من التتسيب فضلا عن خطورة المراهنة عليه مما يجعل ما تبقى من " عقل الدولة " والقوى المحلية والدولية المعنية بهدف " الاستقرار" في تونس ترافق بكل عناية هذه الفرضية وتراقبها بشكل دقيق .
ثالثا :كثير من الغاضبين الداخليين من مسار 25 جويلية بمن فيهم الاطراف الوظيفية الحزبية والمنظماتية التي قدمت له خدماتها وتبدي الان قلقا منه فضلا عن كثير من " معارضة الانقلاب " التي اتجهت الى " جبهة اسقاطه" بعد اشهر طويلة من وقوعه ..هؤلاء جميعا لا يبدون حماسا لتغيير جذري يعيد موازين القوى الى ما كانت عليه قبل 25 جويلية 2021 اي عودة حركة النهضة وغريمها الاساسي الى صدارة المشهد .
رابعا : وضعية الارتباك التي شهدتها جبهة مقاومة الانقلاب بعد تعثر واضطراب في تأمين ما يسميه صديقي زهير اسماعيل طقس العبور من مقاومة الانقلاب الى صناعة البديل وفك الطوق عن الشارع الديمقراطي وتدشين مرحلة الكفاح السياسي والشعبي لتحرير المؤسسات واستئناف المسار وبناء المشترك على قاعدة الانتصار للديمقراطية لا مجرد الالتقاء على " معارضة " الانقلاب .
وهذا العامل الرابع هو عامل جوهري يمكن بتجاوزه احداث تغيير جوهري على " صلابة التعطيل " الذي تمثله العوامل الثلاثة الاخرى دون ذلك نقدر ان الوضع التونسي تحت "حكم سلطة الازمة " سيحافظ على استمرار " تصريف امور الستاتيكو " بعيدا عن كل اوهام التغيير الجذري .
الاستشراف في وضع الازمات المركبة يبقى بطبيعة الحال نسبيا وقابلا للخطأ بمجرد احداث غير متوقعة يمكن ان تلعب الصدفة فيها دورا كبيرا .وفي كل الاحوال يبقى الأسلم للبلاد هو تجنب المجهول المخيف والمدمر للجميع بجنوح كل الاطراف انقلابيين وديمقراطيين ولاعبين اساسيين في مربعات القوة / الدولة / النظام. الى تسوية "الشجعان" ولكن هذا الامر مستبعد بشكل كبير .