هذا الوضع كما ألخصه في العنوان هو ما يسمى تقريبا بوضعية الفراغ . قيس سعيد ( اقول جيدا قيس سعيد وليس فكرة الانقلاب ) هو الان في وضعية عزلة سياسية تامة لم يعد له نصير في الساحة السياسية الا من تبقى من مجموعته الايديولوجية الضيقة التي لا يعلم أحد حجمها الحقيقي على الارض وقدرتها على ان تمثل رافعة سياسية للرجل .
تنسحب الان من حول قيس سعيد تقريبا كل الاطراف السياسية والمدنية التي ساندت انقلاب 25 جويلية وساهمت فيه باعتباره اغلاقا لقوس التنافس الانتخابي على الحكم الذي فتح في 2011 من اتحاد الشغل الى تيارات وشخصيات مناهضة للديمقراطية والاسلاميين وهذه الاطراف لا تفعل الان غير التذكير بمفهوم صوري فارغ او اسم بلا مسمى يطلقون عليه " مسار 25 جويلية " .
هذا الفراغ حول قيس سعيد صنعه سببان :
اولا: مجموعته الايديولوجية الضيقة التي منعت كل "تسرب " لهذه الاطراف في مركبة " المشروع " ولفظتها بشكل احتقاري غريب رغم اضطرار هذا "التنظيم " الى خطوة تحالف تكتيكي لتجاوز مخاطر العزلة عبر ما يسمى بمجموعة الشعب ينتصر والتي بدات بدورها في التصدع بمجرد انطلاق الترشحات.
ثانيا : رقابة العميقة واجهزتها ولوبيات المال والرعاة الدوليين لحدث 25 ممن منعوا كل تشكل سياسي حول الرجل يمكن ان يفقدهم التحكم " العقلاني " في " مسار " الترتيب المزدوج" لإنهاء 2011 و عدم الامعان في شعبوية صيف 2021 و ترك الباب مفتوحا امام تسوية ممكنة على قاعدة المصالح المشتركة والمتناقضة غالبا محليا ودوليا .رثاثة مساندي 25 ضمن سردية الشراكة في الانقلاب على الديمقراطية وعلى ما يسمونهم " الاخوان " سهلت عزلهم ليكونوا مجرد ماعون وظيفي في الاشهر الاولى من الانقلاب .
عزلة قيس سعيد بالذات تظهر اليوم في هامش " الحركة والحرية " الذي تتمتع به " حكومة الادارة " والتي تقود وحدها الملف الاقتصادي والاجتماعي بعيدا عن خطاب وامنيات وشعارات قرطاج ومجموعته الايديولوجية والماعون الوظيفي الغاضب والمطرود .
في مقابل عزلة الحاكم تظهر القوى الديمقراطية( المناهضة للانقلاب منذ لحظته الاولى او التي عاد لها صوابها الديمقراطي بعد خيبتها منه) الرقم الأهم في المعادلة لو ذهبت "الدولة" و رعاتها المحليين والدوليين الى التفكير في حل ما بعد قيس سعيد ( النهضة وجبهة الخلاص بقوة فعلية على الارض و الخماسي ومن حوله بقوة رمزية لزوم تمثيل الطيف المسمى تقليديا بالحداثي في كل تسوية).
اتحاد الشغل يبقى دون شك قوة اساسية قادرة في اي ترتيب للموازين رغم الخطأ التكتيكي الرهيب الذي وقعت فيه قيادته تحت تأثير التيارات السياسية النقابية المساندة للانقلاب و التي حولت هذه المنظمة العريقة لأول مرة في تاريخها طيلة العام الفارط الى عربة وظيفية ضعيفة في مسار ارتهان للسلطة القائمة دون ان تنال نصيبها ومكانتها كما كانت تفعل المنظمة باستمرار في كل مراحل ارتهانها .
لكن هذه القيمة التي تحوز عليها القوى المناهضة لقيس سعيد في مقابل عزلته المطبقة لا تستطيع ان تتحول الى قوة سياسية وازنة في الدفع الى " الحل " لأسباب عديدة نجملها في نقاط :
أولا: تواصل الانقسام الحاد بين هذه المكونات حول "الديمقراطية " وتوزيع مسؤوليات الفشل في العشرية الماضية واساسا حول الموقف من حركة النهضة فضلا عن الاختلافات التقليدية للطبقة السياسية التونسية حول الزعامة ورغبات التموقع الذاتي وتعجل جني الثمار والرغبة في احتكار الوجاهة وحب البروز وهي عوامل و رغم تفاهتها فهي أساسية في تفسير كثير من الفشل السياسي لهذه الطبقة .
ثانيا : عزوف شعبي عام رسخته عملية غسل ممنهج لوعي التونسيين من غرف اعلامية رهيبة في عبقريتها نجحت على امتداد عشرية كاملة في تعميم التفاهة والشعبوية والفراغ المعرفي وكره السياسة والديمقراطية وترذيل كل ما به تنهض الشعوب وتتحرر .
ثالثا : تصدع " عقل الدولة " وتشتت مؤسساتها وتناقض الماسكين بمربعات النفوذ المادي والرمزي و الفاعلين المحليين والدوليين وتضارب مصالحهم وخوفهم المشترك من عودة مسار ديمقراطي لن تكون فيه قوة منتظمة وفاعلة الا حركة النهضة واتحاد الشغل في ظل عجز عن بناء قوة سياسية ثانية معدلة وضامنة للتوازن كما حصل في 2013 بقيادة المرحوم قايد السبسي .
مما تقدم يبقى الوضع في حالة فراغ ..ولكن ستاتيكو الفراغ هو غير ستاتيكو توازن القوى ...وهنا الخطر ...فالبلاد تفتح عندها على المجهول …