في وضعية الحكم الفردي البورقيبي والنوفمبري كان الانقسام عموديا في المشهد التونسي بين الدولة ومجتمعها . لم تستطع دولة الاستقلال على امتداد نصف قرن ونيف ان تكون "وطنية" بالمعنى الموضوعي للكلمة اذ بحكم مركزيتها وقيامها على حكم الفرد او الحزب الواحد عجزت عن ان تكون دولة كل مجتمعها فقصرت عن تغطية كل المجال الاجتماعي تنمويا ووقعت في الجهوية او الطبقية وفي المجال الثقافي والسياسي كان مشروعها " الوطني " فرديا او حزبيا .
كانت ثورة 2011 طلبا للتأسيس الثاني للدولة الوطنية عبر المطالبة بشحنها اجتماعيا واقتصاديا بمطلب " العدالة" في التوزيع المادي والرمزي للتنمية الشاملة على كل الجهات والفئات وعبر المطالبة بشحنها سياسيا وحقوقيا بمطلب "المواطنة " و "الديمقراطية" بتوزيع الحكم او ما يسمى بالمشاركة او القسمة السياسية للتعبير عن التعدد والاختلاف .
تعثر الانتقال الديمقراطي نحو التأسيس الثاني بمطلبيه الاجتماعي والسياسي سوف يحول الانقسام افقيا ليصبح داخل المجتمع .
لم تتمكن النخبة والطبقة السياسية من تنزيل التعاقد الوطني على دستور الثورة الى الواقع للتمكن من رأب التصدعات التي جاءت الثورة لمعالجتها : الشرخ السياسي ( انقسام حكم / شعب) والشرخ الاجتماعي (مركز / هامش) والشرخ الثقافي ( هوية / كونية ) .
ولدت بعد الثورة انقسامات جديدة وافدح بين نخب غير قادرة على المقايضة والصفقات والتسويات التاريخية ايديولوجيا وطبقيا ( التوافقات كانت مغشوشة حتى ان حاولتها النخبة ) ثم نزلت انقسامات النخبة الى الناس واخذت لبوسا شعبويا خطيرا وانتهت الى انقسام بين النخبة والشعب لتصبح وهذا الاخطر في قلب الدولة ووجد الانقلاب فرصته للانقضاض .
المقابل للانقسام ليس نفي الاختلاف وتغييبه، بل ان مقابله هو بناء المشترك او ما يسمى بالمشروع الوطني وهو المشروع الذي تكون الديمقراطية اداة الاختلاف تحته او في اطاره .
انقلاب 25 جويلية هو من جنس الشعبويات الرثة التي تذهب الى الاستبداد باسم الشعب والوحدة الوطنية تحت حكم فرد بالشعارات العامة . وهذه الشعبويات تنقلب عادة على الديمقراطيات التي تفشل وتبرر دوما انقلاباتها بحقيقة الانقسام القائم، ولكنها في الغالب لا تحل مشكل الانقسام، بل تعمقه لتستمر به، ولكن باسم انها تريد مقاومته ( انهم يحاولون تفجير الدولة من داخلها هي العبارة المفضلة للانقلاب) .
الشعبويات الانقلابية تحمل وزر الانقسام للنخبة والمثقفين والطبقة السياسية وفي كلمة للديمقراطية و تمارس شكلا من التحيل على الحشود الخائفة من الانقسام عبر ايهامها بأنها ستحكم باسمها في مواجهة الانقسام المخيف الذي يكون سببه حكم النخب والاحزاب والمثقفين لأنهم فاسدون بطبعهم في مواجهة طهر " الشعب" و " زعيم الشعب" ( كل الشعبويات تطلق على المنقلب المستبد صفات رسولية وفي الغالب صفة " ولد الشعب " " حبيب الجماهير " "ابن الأمة وزعيمها ومخلصها " مادام مشروعه هو فقط الاستماع للشعب وتركه "يريد" او تركه يتوهم انه " يريد" . ).
الانقسام باعتباره اداة التخويف لاستمرار الشعبوية هو أحسن ما يتمناه المنقلب على كل ديمقراطية متعثرة : شعب يكره نخبته ..ثم يكره بعضه بعضا ..ثم ينقسم الى جهات وقطاعات وفئات وطوائف تتصارع بالشعبويات المتقابلة ..ويبقى باستمرار الامل في ان الخلاص سيأتي حين تأتي لحظة الحرب الشاملة ...على من ؟ . لا يهم ...المهم هناك حرب ستأتي ..وسيخوضها شعب طاهر هو فئتي انا، او جهتي انا ،او قطاعي انا ،او أنا وحدي ( انتخابات على الافراد) مع الزعيم الطاهر ( النصير يجب ان يعتقد ان زعيمه لا يحبونه لأنه ضدهم كفاسدين .. من هم ؟ لا ندري ...هم كل من ليسوا انا ومن ليسوا زعيمي... ).
الشعبويات الرثة المنقلبة تنتج في مرحلة متقدمة الانقسام الضروري للاستمرار داخل الاطهار/ الاتباع انفسهم ...بين المخلصين الحقيقيين للمشروع والمتسربين اليه وهذا الانقسام هو اداة استمرار الزعيم ...ما هو المشروع ؟ لا ندري ...هو المشروع الذي في صدر الزعيم ويتسابق الاتباع المنقسمون على تفسيره دون ان يفصح الزعيم عن التفسير الذي يقبل به حتى يتعمق الانقسام ايضا بين حوارييه …
الانقلاب يتغذى بالانقسام و يرعاه ليستمر ولو على حساب الوطن وحين يبلغ الانقسام حافة الهاوية سيظل الزعيم يحمل الاخرين وربما يحمل الشعب المسؤولية لأن الشعب يعرفهم ولم يتصرف مع هؤلاء " الاخرين " ..
انقاذ الاوطان من الانقسام المنذر بالخراب يكون حين تجنح النخب العقلانية الى بناء المشترك الذي تدير به الاختلاف البناء ادارة ديمقراطية و تحت سقفه وهذا ما يسمى الوحدة الوطنية ...الوحدة الوطنية هي الاختلاف الذي تديره ديمقراطيا نخبة عارفين لا شعبويون جهلة تافهون وهي وحدة المشروع الوطني في دولة وطنية تغطي كل مجالها الوطني كما ارادت الثورة ...عندها يخرج الوطن الى الاستقرار في الديمقراطية المنجزة ...حان الوقت هيا نكتب مشتركنا بعيدا عن صخب الشعبويات الميديوكر …