المعرفة أساس التقدم و التنمية و الاصلاح ..و الايديولوجيا تبدأ فقط عندما نبدأ في النقاش حول كيفية توزيع ثمارهذا التقدم و التنمية و الاصلاح ..صناعة سيارة مثلا تقتضي عارفا بصناعتها أما سياقتها في هذا الاتجاه أو ذاك فتلك خيارات من يفوز بالجلوس على مقعدها .
مشكلتنا نحن العرب و نحن التونسيين أساسا أن مناقشة تدبير الشأن العام و اصلاح أمورنا بعد الثورة و سقوط الاستبداد أصبحت متاحة للجميع ..اي لمن هب و دب باسم الحرية و هذا موقف ايديولوجي بينما كان المطلوب أن يكون الامر منحصرا بين "العارفين" فننتج "الصلاح" و "الثروة" و "التقدم" في جدل بين العارفين ثم نناقش بعد ذلك بأي وجهة "ايديولوجية" نذهب بهذه الانتاجات فيكون لصوت العوام مكانها في صناديق الاختيار الايديولوجي الانتخابي ..
أنا لستُ ميالا الى "الشعبوية" التي تجامل "العامة " و تنصبها حكما في قضايانا الفكرية و السياسية و مشاريعنا الوطنية و أعتبر أن مناقشة القضايا الكبرى و الحسم فيها شأن الخاصة .."العارفين" بتياراتهم و مدارسهم المختلفة التي سيجد كل العوام انفسهم في احداها بالضرورة دون ان يكونوا هم المحددين طبعا لمضامينها ..
أزعم أن عددا كبيرا من عارفي تونس و من توجهات مختلفة كانوا ضحايا لإشراك العوام في حسم القضايا الكبرى و في أحيان كثيرة يكون عارف معين ضحية حتى لعوام ممن يزعمون الانتماء الى نفس حزبه او تياره حين يفكر كعارف بصرامة المعرفة دون ان يفكر في مجاملة هؤلاء العوام …
أما العارف الذي لا ينتمي لحزب أو تيار فيكون في احيان كثيرة ضحية لنيران العوام من كل الاتجاهات فاذا وافقت فكرته اليوم هوى عوام اليسار نالته قذائف عوام اليمين و اذا خالفت فكرته ما يريده عوام اليسار جاءته منهم في الغد نفس الحمم التي نالها بالأمس من لهيب عوام اليمين ..و هكذا …
لا أقصد بالخاصة طبعا من نال الشهادات و تمترس بالألقاب العلمية بالضرورة و لا أقصد بالعامة كل جماهير الشعب الكريم بالضرورة ..انما أقصد بالخاصة من شهدت اسهاماته بقدرة على صناعة الافكار و أقصد بالعامة قطعان الرعاع المكلفين من كل حدب و صوب بالقول و الحسم و اصدار الاحكام على الجميع في كل القضايا يوزعون صفات الحقيقة و الغلط و مناقب الشرف و الطعن في الناس ..انهم رويبضات عصر الازرق المفتوح للشجاعة الافتراضية و التبذير اللغوي السائب على جدران تدوين بلا رقابة ممتحنين و لا تقييم هيآت العلم و المعرفة …