وأخيرا رحل "عرفات" ولم تذهب سدى جهود المسؤولين والرسميين العرب في إعداد الجنازة ومراسم اللطم والعزاء قبل أن يقبض الروح بارؤها....رحل "عرفات" حتى لا يخيب جهود الذين اشتغلوا في شأن الميت بسرعة الحانوتي الحاذق كما لم يشتغلوا في شؤون الأحياء....رحل "عرفات" ليمشي في جنازته القتلة وأشباههم و محترفو المآتم ومنافقو المواكب ممن تمتلئ كروشهم من قصعة "معاوية" وتفيض دموعهم المصطنعة على "علي" و"الحسين" ...رحل "عرفات" وتبارت أقلام الفيء السلطاني وحشاشو الصحف المأجورة وخبراء المراكز المشبوهة ومراسلو الفضائيات متعددة المواهب ...تبارت في سرد المناقب أو تسريب المثالب ...وتسابق سدنة القصور الخاوية وحماة العروش الهاوية والخصيان من حملة السيوف المكسورة في تقديم النصح لليتامى المفجوعين …
وانبرى الذين يحسبون كل صيحة عليهم يعلنون براءتهم من ذمة الرجل الذي رموه وأهله في الجب وجاؤوا على قميصه بدم كذب....لكن ...رحل "عرفات" ومشى في جنازته أيضا أحبابه وأبناؤه الذين فجعهم الإحساس الرهيب باليتم ...مشى في موكبه رفاقه الذين صحبوه في الدرب الطويل واتفقوا أو اختلفوا معه ولكنهم لم يضلوا الطريق ...وحدهم جماهير شعب الجبارين وقياداته الميدانية من الكتائب إلى الكتائب ...والألوية ...وحدهم وأحرار العالم ...وقفوا بخشوع الفرسان الشرفاء ..بقلوب حزينة فعلا ...وعيون دامعة حقا ...وإرادة مصممة على الوفاء إلى شموخ الكوفية التي لم تغادر رأس الفقيد حتى في أحلك الفترات ...ترجل الفرسان الشرفاء من على صهوات جيادهم ووقفوا بجلال الأبطال يودعون القائد والرفيق ..والخصم الوفي ...وقفوا على اختلاف أطيافهم يؤدون التحية على طريقة الأبطال العظام إلى بطل عظيم ...وقفوا على طريقة من جمعهم حب فلسطين وان فرقتهم أساليب عشقها ...وحدهم من وقفوا بصدق يعرفون معنى الوقوف أمام موكب الشهيد .....
في برزخ الشهادة هناك سوف تحلق روح "أبي عمار"...حرة طليقة ...كما وعدنا صوته المرتعش المتصاعد ذات صباح من وراء جدران محبسه في "رام الله "...شهيدا ...شهيدا ...شهيدا ...حين يستقر جسده الطاهر في تربة الأرض التي عشقها ..سوف يكتب التاريخ انه كان فعلا بطلا تراجيديا بالمعنى الميثولوجي للكلمة وانه كان بطلا إشكاليا بالمعنى الروائي للعبارة ...عندما أعلن ذات سنة من أواسط السبعينات انه يقبل حاملا غصن الزيتون والبندقية فانه كان يعلن بداية سيرة مغرقة في مفارقاتها الغريبة...رهيبة في تقلباتها المدهشة المثقلة بالألم والمعاناة والتداخل ...كان "عرفات" مشدودا بكوفيته إلى وداعة الفلاح الفلسطيني المتيم بعشق الأرض الهادئة المسالمة المفطومة على عنب "الخليل" وبرتقال "يافا" وزيتون "الجليل" والمزدانة بحمام "القدس" المغرد في باحة "الأقصى"…
غير أن الرجل كان ببدلته "الكاكي" مفتوحا على لهيب الجبهة ولعلعة الرصاص ...ومنذ تلك اللحظة كان التاريخ يهيئه للسير على حافة الهاوية وعلى حد السكين ....كان التاريخ يهبه لاحتواء المفارقات وتبطن الأضداد واختزال المتنوع ...فتمثل الرجل بامتياز براغماتية المسؤول و"كاريزما" القائد دون أن تعوزه قداسة الثائر وشجاعة المتمرد فكان بحق رمزا لشعب ولقضية أرهقتهما الأعاصير وضيعتهما الأخطاء والتناقضات الممتدة على طول القرن العشرين والتجاذبات المسفوحة على بساط وطن عربي كبير ممتد من خليج الأمراء مرورا بيسار العقيد ويمين الركن ووسط اللواء ونزوات الزعماء الملهمين ....كان "الختيار" جمعا في صيغة المفرد …
وعلى امتداد أكثر من عقود أربعة استطاع أن يتصدر الخيمة الفلسطينية مدبرا بحصافة الزعيم غابة من البنادق وبحرا من الأمواج المتلاطمة وعالما من الأرواح المتنافرة ...كان "عرفات" مضطرا إلى الاضطلاع بإدارة ثورة في حجم دولة ودولة على بركان ثورة ...كان عليه أن يضمن قرش الرغيف للماسكين على جمرة البقاء في الداخل المغتصب ...وكان عليه أن يضمن رخصة المخيم وأمانه للمنتظرين على تخوم الوطن لحظة العودة ...كان عليه أن يوفر منحة طالب العلم بتبويس اللحى النجسة ...وان يوفر كلفة المندوب ومنحة السفير وفوق هذا وقبله أن يوفر طلقة "الاربي جي" ورصاصة "الكلاشن" وطعام المقاتل حفظا لعزة القرار الوطني تحت حماية البندقية ...وعندما ألقاه الزمان أعزل مع أبنائه في فنادق "السلوى" كان "عرفات" العنقاء التي تنهض من رمادها ...فدبر الانتفاضة وتسلل من جديد إلى عبق المخيمات الحزينة يعد لحظة أخرى من رحلة "سيزيف" الفلسطيني...
كانت عظمة هذا الرجل انه كان قادرا على الخطإ باستمرار إلى درجة الفداحة وانه كان مؤهلا للتدحرج إلى مشارف الهاوية ولكنه كان يملك القدرة على إيقاف تدحرجه في اللحظة المناسبة ...كان يؤمن أن خطوطا حمراء تميز بين التدحرج والسقوط ...كان يملك القدرة على الإنصات إلى إيقاع التاريخ ...ولو بعد فوات بعض الوقت أحيانا ...كان يحسن الإنحناء أمام إرادة شعبه الحكيم ...كان يجب أن يكون لعرفات شعب كالفلسطينيين حتى يكون زعيما بهذا التداخل العبقري ...لم يكن "عرفات" ملاكا ...ولم يكن "عرفات" شيطانا ...كان رمزا بشريا أسطوريا لقضية وزعيما لشعب من الاستثنائيين...عرفات هو فلسطين ..بحرها ..وقرها ...بصحوها وغضبها ..بسهلها ووعرها …
هو خيوط الكوفية المتشابكة ..."عرفات" هو المخيم بخنادق الأعداء المتقاتلين في ليل "طرابلس" الحزين ..هو أخطاء جمهورية "الفاكهاني" وانحرافاتها ...ولكن "عرفات" هو معركة الكرامة وعرس الفصائل الفلسطينية المتحدة لحماية "ست الدنيا" بيروت العظيمة ..."عرفات" هو الانتصار لبغداد الجريحة حين تآمر عليها العدو والشقيق ...ولكن عرفات هو نفسه مرارة "أوسلو" والميثاق المغدور ...عرفات من يمينه تناسل هواة التفاوض المتهافتين على طاولات التسويات في الغرف المظلمة ...ومن يساره خرج "مروان البرغوثي" بكتائبه المجاهدة قبل أن يسلمه "العلقميون" ..."عرفات" هو الذي تلقته أيدي أبطاله حين عاد إليهم جثمانا يشهد على خيانة موصوفة ستظهر تفاصيلها ولو بعد حين ...."عرفات" هو ...ياسر ....ع..ر..ف..ا..ت.