يبدو ان رئيس الجمهورية يصر على لعبته الممتعة عبر الاستمرار في الاستثمار المريح في موقع " الرئيس الاحتجاجي والمعارض " للسياسيين ومنظوماتهم " الفاسدة" واللعب على مشاعر الناس الغاضبة من المشهد العام والمشتغلين فيه.
لكن ظهور الرئيس ليلة البارحة لتهنئة الشعب التونسي بحلول شهر رمضان المعظم كان منعرجا فارقا ومؤكدا لما توجس منه كثيرون من اداء رئيس أصبح يجسد أخطر مظاهر الشعبوية في أكثر تجلياتها المرعبة.
لا ندري ما سيقوله بعض المعلمنين الذين اصطفوا وراء الرئيس وهم يرونه هذه المرة يوجه كلمة الجمهورية من "مؤسسة الجامع" بين الشيخ والمفتي عوض ان تكون التهنئة من قصر الجمهورية.
كلام رؤساء دول حديثة من محاريب الجوامع او منابرها هي حالات استثنائية حين تبلغ درجة الشعبوية والانفراد بالرأي اوجها كما فعل بورقيبة ذات مولد نبوي حين صعد منبر جامع عقبة بالجبة والعصا ولم يكررها رغم ان الزعيم الفرد الاوحد الراحل كان ينصب نفسه حاكما يقرر للتونسيين مصيرهم السياسي الدنيوي و يحدد لهم امور دينهم ...
صعد عبد الناصر ايضا متبر الازهر اثناء التعبئة للتصدي الى العدوان الثلاثي في اواسط الخمسينات.. ولكن تجنب الخلط بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية اصبحت هاجسا دائما لرؤساء الدول الحديثة ما يجعل المسؤول السياسي لا يكون في الجامع الا حاضرا لا خطيبا حتى يترك ما لله لله.
كلمة الرؤساء والسياسيين في المناسبات الدينية تكون غالبا مدنية قدر الامكان رغم ما قد يرافقها من نزعة دينية خفيفة هي ما يكون مشتركا بين المواطنين. لكن كلمة الرئيس البارحة كانت بمثابة موعظة دينية لا تحمل من السياسة الا ما قاله وكأنه " امام الملة / أو الزعيم الروحي للامة " وهو ينقد " بعد السياسيين عن الدين وتعاليمه وعن رمضان ومقاصده " وهو امر لا يجوز لرئيس جمهورية منتخب في سياق صراع سياسي دنيوي لا علاقة له بأحكام العقيدة.
رئيس الجمهورية تحدث عن " منصبه " باعتباره " جاها " و "سلطة " وابتلاء من الله. و من الواضح ان رئيسنا يلقي بنا في قلب مصطلحات "السياسة الشرعية " و " اداب الاحكام السلطانية " . نسي رئيس الجمهورية انه ترشح للانتخابات بمحض ارادته وذهب في ظنه ان " الامة " هي من جاءته الى بيته لتضع على " اكتافه " امانة الحكم.
فكان " ابتلاء من الله " و بذلك يمعن الرئيس في ارتداء قفطان الامامة بعد ان منحه المتملقون لقب " الزعامة " باعتباره " الرئيس القادم من المستقبل " ليصبح قريبا " الزعيم الضرورة " و " القائد الملهم او المعلم " مادام " مثقفون حداثيون " يرددون في مدحه " اضرب يا الاخشيدي " .
في نهاية التحامه بالرعية في صحن المسجد الجامع وضح "الامام الصالح" الفوارق بين المسلم والمؤمن والاسلامي وتكلم هذه المرة في تأويل النص المقدس بعد ان كان يأول لنا الدستور. وبذلك يرتقي السيد الرئيس هذه المرة الى ظل الله في الارض على طريقة حكام اوروبا في العصور الثيوقراطية حين كان تأويل الكتاب في يد الحاكم الذي عمدته الكنيسة ومنحته حق القراءة الحصرية للنص.
الرئيس قيس سعيد انتقل بنا من شعبوية احتكار " الطهرية " و " فهم الدستور " و " امتلاك الحقيقة " و " الوطنية " في مواجهة " "الفاسدين " و " المارقين عن القانون " و " العملاء " الى أخطر من الشعبوية وهي تنصيب نفسه " الامام الروحي والزمني " الذي ابتلاه الله بحكمنا كي يذب عن عقيدة الامة وينقذنا من الضلال ويعيد الحكم للمسلمين والمؤمنين في مواجهة " الاسلاميين " …
سمعت محللا سعيدا وهو يتحدث عن ذكاء الرئيس الذي يقول للشعب ما يريده ويفتك لنفسه الاسلام من المتاجرين به …هذا امر يفرحك؟؟؟ …
قريبا سنتصارع مع الرئيس حول خلق القران او قدمه وحول حكم تارك الصلاة والفرق بين السياسة الحلال والسياسة الحرام …