سنة افلت وأنا أرجو بطبيعة الحال أن تمحى من ذاكرتي وذاكرة بلدي وأن تعيش تونس سنواتها القادمة مختلفة عنها . في اواخر 2021 حدث الانقلاب على مسار الديمقراطية المتعثرة لتكون سنة 2022 سنة محاولة تأسيس الاستبداد ..لكن هيهات .
بعد ان استولى اعلى هرم في السلطة التنفيذية على كل مفاصل الحكم وبعد ان داست القوة العارية للدولة دستور البلاد واغلقت المؤسسة الأصلية التشريعية تم حل الهيئات التي مثلت على علاتها النواة الاولى لأسس اول ديمقراطية ناشئة علق عليها العالم وخصوصا شعوب العالم العربي امالا عديدة كي تكون الخطوة الاولى لدخول هذه المنطقة الى دائرة الأنوار والحداثة ...كان حقا عام الحزن على ربيع التونسيين .
لكن السنة الراحلة كانت ايضا سنة الفتوحات النظرية والعملية المفعمة بالوعود لمستقبل أجمل .
في السنة المنقضية اكتشفت أمرين اساسيين أحدهما محزن وخلاق نظريا وعمليا والاخر مفرح وفعال وواعد و اعتبر انهما سيحكمان تفكيري وتقديري للأشياء في ما تبقى من عمر :
أولا : الانفضاح الأخلاقي لعدد من الهويات السياسية والمدنية والاكاديمية بأفكارها وشخوصها و التي ظلت تدعي لفترات احتكار صفات الحداثة والتنوير والتقدم وتنسب نفسها الى ما يسمى العائلة " الديمقراطية " والتي سقطت امام اختبار عسير في الحرية لتتحول الى نصير فصيح لاغتصاب العهود والمواثيق والقوانين والدساتير ولتكون صف تبرير لانتهاك مؤسسات الشرعية ومخرجات صناديق الارادة الشعبية . والأبشع من ذلك ان تكون شيطانا اخرس امام الانتهاكات والمحاكمات العسكرية والاخفاء القسري والمنع من السفر وملاحقة الاعلاميين .
كانت الفضيحة الفكرية التاريخية لهذه العائلة المسماة حداثية بجلاجل وهي تمسك بنقابة الصحفيين، ولكنها لا تدافع عن صحفيين تنتهك حقوقهما ويقدمان لمحاكمة عسكرية وكانت فضيحة هذه العائلة افدح وهي تمسك بخناق اعرق رابطة دفاع عن حقوق الانسان لتمنعها من نطق نصف جملة عن الانتهاكات في شتاء سنة مقارعة الانقلاب ولقد عصفت هذه العائلة برصيد الحركة الحقوقية والديمقراطية وهي ترى عميد أعرق قطاع شريف وهو قطاع المحاماة يتحول الى مجرد مدافع صغير على اكثر الانقلابات رثاثة وضحالة في تاريخ العرب .
لقد كانت سنة انكشاف جزء كبير من هذه " العيلة " بأحزابها وشخوصها ومجتمعها المدني ...الا من رحم ربك .
هذا الانفضاح هو درس معرفي وعملي فارق وجوهري يؤكد هشاشة الثقافة الديمقراطية لمن أسسوا هوياتهم الفكرية على مزاعم الانتماء للعصرانية والحداثة السياسية في القشرة بينما الروح تنتمي الى العصر الوسيط.
هذا الدرس العملي عمق احساسي بالحاجة الى بذل الجهد لبناء التيار والقوة الديمقراطية الحداثية الحقيقية التي تكون في قلب المجال السياسي ضمانة حقيقية لقيم الحداثة السياسية كما عمق حماسي بضرورة المساعدة على البناء المستقبلي للمجتمع المدني الجدير حقا بهذا الاسم والذي يكون فعلا القوة المعدلة تقف في الوقت المناسب لصد تغول الدولة ومواجهة كل محاولة لانتهاك الحقوق والحريات واحترام القانون . فضلا عن التفكير في بناء اعلام ومجال ثقافي يكون حقا نصيرا للديمقراطية لا ان يغدر بها في اول محنة .
هذا الدرس علمني ايضا انا ورفاقي ضرورة التسلح باليقظة الدائمة للتفطن الى كل حيل هذه الهويات السياسية والمدنية الحداثوية المزيفة حتى لا تحول الحلول الوطنية للخروج من الانقلاب والعودة الى الديمقراطية الى انقلابات اخرى تجيرها لصالحها ولنزواتها الاستئصالية وكرهها للديمقراطية المجسدة لإرادة شعب لا يثقون فيه ولا يحبون الاحتكام اليه .تعلمت انا ورفاقي ان هؤلاء لا هم حداثيون ولا هم ديمقراطيون ولا هم مجتمع مدني ..انهم مجرد ورثاء لثقافة عصر وسيط او تلاميذ سيئين لثقافة ايديولوجيات شمولية أو شعبوية في الغرب بصورته المظلمة لا المستنيرة . هؤلاء يجب ان نرحمهم وان لا نؤمن بهم على رأي ابي هريرة المسعدي .
ثانيا : التألق البديع والمؤسس للأمل في مستقبل الحداثة في تونس بهبة وصمود هذا الشارع الديمقراطي المتشبع بقيم الحرية والحداثة والتقدم رغم ان غالبيته تنسب الى التيار " المحافظ " المسمى رجعيا وبعضه من يساريين او عروبيين او علمانيين وطنيين استطاعوا اقامة التأليف العميق بين الانتصار لكل قيم الديمقراطية الحديثة والانحياز للتأصيل الديكولونيالي والاستقلال الابيستيمولوجي ورفض الخدمة الوظيفية لمنظومات الاستبداد وأماني قهر المختلف ودوس الارادة الشعبية ودستورها بالدولة القاهرة .
لقد تمكن هذا الشارع الشجاع من قلب المعادلة الانقلابية التي سلمت بها قوى اقليمية ودولية و قبلت بأمرها الواقع اغلب القوى الداخلية وسكت عنها شعب لم يجد مبررا للدفاع عن ديمقراطية ذبيحة اوهموه انها لا تفيده وشوهوا وعيه بان عشريتها كانت سوداء .
بعد اشهر قليلة تمكن هذا الشارع من وضع الانقلاب في الزاوية وتحول في مواجهته الى رقم اساسي ليفرض العنوان الرئيسي للصراع الحقيقي : انقلاب / ديمقراطية وبقدر ما كانت تعبئة هذا الشارع وتماسكه يزيدان باطراد ؛ رغم الاستهداف من ملاحقات ومحاكمات ومحاصرة استهدفت اهم مكوناته الحزبية والبرلمانية والاعلامية ؛ كانت وضعية الارتباك تزداد في صف الانقلاب وكان منسوب الخجل من العار يرتفع لدى من نسبوا انفسهم للديمقراطية مما مكن هذا الشارع الديمقراطي من جرجرة كامل الطيف السياسي والمنظماتي حاليا الى ارضيته : الانقلاب جريمة بلا أفق والبلاد تحت حكم 25 في ازمة ولابد من حل وطني باستئناف الديمقراطية .
كان عام حزن، ولكنها كانت سنة امل ...مازال الطريق طويلا ...لكننا سنمشيه حتى نسلم تونس لأبنائنا واحفادنا ديمقراطية دخلت مدار الحداثة …