معركة الوعي ومناهج التغيير. بعض كلام في طبائع الاستبداد
الشعبوية ليست فقط الجهة الحاكمة وحشودها و انصارها منذ 25 جويلية. هي أيضا هذه الرثاثة والمزاجية و السطحية المقسمة بعدل بين "الجماهير الشعبية" بمختلف اطيافها السياسية والثقافية وعموم " شعبنا العظيم " من غير المنتمين الى السياسة وبين "نخب" هذه الامة العظيمة .
الشعبوية ظاهرة متصاعدة في مختلف انحاء العالم والشكوى من حكم التفاهة " ميديوكراسي " بلغة الفيلسوف دنو هي مشغل المفكرين وعلماء الاجتماع والفلاسفة في العالم المتقدم رغم ان هذه الشعبوية والتفاهة في هذا العالم لا تعطل سير المؤسسات وقيام الناس بواجباتهم المواطنية وتكفل النخب العالمة والكفؤة بأدوارها في مجتمعات حققت نهوضها بشكل تصبح فيه التفاهة مجرد هامش صغير من مخرجات ملل الحداثة و القلق الوجودي من افراط التقدم .
اما شعبوية وتفاهة عالمنا العربي المتخلف فقد أصبحت احدى محصنات التأخر و معجلات الانهيار عند شعوب بلا مشاريع " جدية " للتقدم وبلا عقول حقيقية وكفؤة للانشغال بتدبير شؤون امة يحاصرها الجهل والفقر والاستعمار والاستبداد الغبي .
الشعبوية والتفاهة بما هي تبسيط المشاكل الحقيقية وتحويلها الى موضوع تفاوض عامي فيتم ابتذالها وتسطيح حلولها وسذاجة معالجتها …وبما هي الغرق اليومي المتجدد في "اشكاليات" جانبية لا يعرف أحد من يصنعها على هذا الفضاء الازرق ومن يحولها الى مواضيع رئيسية في وسائل الاعلام التقليدية…
هي الصفة الملازمة للبلاد التونسية منذ اندلاع ثورة كان من المفروض ان تكون تأسيسا ثانيا لمشروع وطني تقوده نخب كفؤة في انتقال ديمقراطي كان يجب ان يكون تمرينا للمواطنة لشعب يجب ان نعترف انه قد تم تسطيحه وافراغ وعيه على امتداد عهود التسلط البغيض ليتواصل كي هذا الوعي و ابتذاله عبر عمليتي تنويم واثارة ممنهجتين ابدع فيهما اعلام ومشهد سياسي وثقافي قادته غرفة توجيه انموذجية في خبث مهاراتها التي يجب ان تدرس في اكبر الاكاديميات الاعلامية باعتبارها أنجح تجارب الدعاية السوداء .
ليس هناك شعبوية رثة أفدح من هذا المدح المنافق " لجماهير شعبنا العظيم " وكأن الشعوب كيانات مقدسة لا تخطئ او كأنها روح متعالية لا تحتاج الصقل والتربية . وليس هناك شعبوية اكثر فداحة من هذا الاطمئنان لمن تم تنصيبهم منذ عقود كاستابليشمنت او اكليروس مفروض لما يسمى بهذه النخبة المحتلة لمراكز القرار الفكري والثقافي والاعلامي والسياسي دون ان يتم زعزعة هذه الكذبة لبناء نخب جديدة للمشروع الوطني الجدي .
أتذكر جيدا في أجواء " القصبات الثورية " بين العاصمة وصفاقس في الاشهر الاولى بعد 2011 ذلك الاجتياح الغامض للنكرات القيادية وحشودها في الساحة العمومية وحتى اجتياحها لبعض الاحزاب التقليدية ومنها الذي كان يرافقه تحريض على الحركة السياسية المعارضة سابقا لبن علي بدعوى : "ما نحبوش سياسيين و احزاب" …همست وقتها لصديقي : ماهذا ؟ …قال لي : الشعب وقياداته الحقيقية والجديدة …قلت له : ليس فقط …هناك شيء خلف الشجرة لا نراه …قال لي : كف عن نظرية المؤامرة …هذا هو التاريخ يتحرك ….وتحرك التاريخ وانهارت النواة الصلبة للحركة الديمقراطية والفكرية التي راكمت معارضة سياسية عالمة للاستبداد وهاهي الان الشعبوية الرثة تتربع على كرسي السلطة طبعا ولكنها ايضا تتكئ مستريحة في ساحة معارضتها في عقول "جماهير شعبنا المناضل " و" نخبه الجديدة " المشغولة يوميا بكل القضايا تدرسها وتجترح لها الحلول السريعة من زيارة بيلوسي الى خيبة الامين النهدي و " ردة فوزي بن قمرة " …