استخلصت في مقالي يوم أمس أن توازن الضعف أو الاستقرار في الأزمة هو عنوان المرحلة السياسية التونسية للصراع بين حكم فردي واستبداد عائد لا يملك ادوات تثبيت اركانه ومعارضة " تقاوم " من أجل بقاء المطلب الديمقراطي ولا تملك حاليا قدرة فرض استعادته.
اهتم المقال الفارط اساسا بتحليل مقومات الوهن في نظام الحكم الحالي وادلي في هذا المقال بإشارات سريعة حول اسباب الضعف في "الصف الديمقراطي" .
يجب الاعتراف أن المطلب الديمقراطي في عالمنا العربي وفي تونس مهد " الربيع " هو الان في أحلك حالات يتمه بلا مناصرين من عموم النخبة التقليدية " للدولة العربية " فضلا عن عامة الشعوب العربية المسفوحة في وعيها ومعاشها .
تلك هي المحصلة المأساوية بعد عشرية صراع مرير بين طموح ثورة المواطنة العربية ومضادديها وهو صراع تم فيه استعمال كل امكانيات "سيستام النظام العربي القديم" من أجهزة وادارة وقوة مادية ولكن وهذا الأهم ما يملكه هذا السيستام من قوة رمزية في الاعلام والاكاديميا .
استهداف المطلب الديمقراطي عربيا كان يسيرا خصوصا وأن اهم المستفيدين منه بصندوق الاقتراع كان التيار الاسلامي والذي سوف يكون ظهوره وحده قادرا على توحيد كل النخبة المدنية والعلمانية حاكمة وفي محيطها ضد الديمقراطية، لكن أخطاء هذا التيار من جهة وضعف القوة الديمقراطية غير الاستئصالية من جهة اخرى سببان اخران سهلا في جعل المطلب الديمقراطي مرفوضا وملاحقا بإسناد او بصمت شعبي من الحشود نفسها التي ذهبت غداة الثورات الى صناديق الاقتراع لانتخاب الاسلاميين .
هذا التوصيف العام عربيا يأخذ بعض الاختلافات الخصوصية في الحالة التونسية وان كان يحافظ على اهم عناصر التحليل فيه .
لابد من القول ان استمرار الانتقال الديمقراطي التونسي على "قيد البقاء" لمدة عشرية كاملة كان بحكم المرونة البراغماتية للطرف الاسلامي والذي منح سريعا الحكم للمنظومة القديمة بعد اقل من سنتين واكتفى بموقع الماسك بالشمعة دون استعصاء في مواجهة الفساد او ممانعة امام ركوب القديم من جديد انتهازيا على موجة الديمقراطية وقبول النهضة للتحالف معه دون ان تطالبه بمراجعات ولا محاسبات ولا حتى ان تناقش اعتداءه على مسار العدالة الانتقالية ودون ان تشترط عليه تفكيك لوبيات نفوذه الاقتصادية والاعلامية بل دون ان تدفعه الى تطوير مؤسسات "دولته/ نظامه" بالقطع مع عقيدتها الاستبدادية .
لقد كانت الوضعية التونسية حالة تمزق في المشاعر الديمقراطية بين تجنب حميد لمصير الثورة المصرية وكبح لجماح الفاشيات والوظيفيات الدافعة الى الاحتراب واحساس مرير بأنها كانت عشرية التسوية الضيزى بين القديم الاستبدادي والجديد الديمقراطي والتي تحولت في الحقيقة الى تسوية بين النهضة والقديم المرسكل في غيبة تمسك صارم بشروط الديمقراطية وانتظارات الثورة .
يمكن تبرير هذه التسوية من وجهات نظر مختلفة ويمكن الاشارة مع ذلك ان الديمقراطية قد استفادت باستمرار من هذه العشرية وحاولت ان تؤسس لنفسها تحت سقف الدستور وقد ظل امل الشروع في البناء والانجاز يراود النخب الديمقراطية الحقيقية . ولكن الوقائع ستؤكد لاحقا ان القوى الوظيفية والفاشية وأخيرا الشعبوية قد استطاعت ان تجعل من تعثرات هذه العشرية وبطء انجازاتها وعلاقة النهضة الغائمة بالقديم الفاسد فخا منصوبا لمزيد ترذيل السياسية والتبغيض في الديمقراطية خصوصا مع اضطراب التكتيكات وتناقضها داخل النهضة الحزب الأكبر المحمولة عليه نتائج المسار اذ فضلت الحركة وقياداتها المتحولة مواصلة لعبة تسويات تراوحت بين الانتصارية المغلوطة والمعاملة الدونية لحلفائها الحقيقيين في التغيير والديمقراطية و الاغراق في البراغماتية الهشة والخنوع المبالغ فيه لقديم احسن ابتزازها بأذرعه الوظيفية وكان ماهرا في جعلها فزاعة دائمة وغطاء طيعا لسياساته التي لم تتجاوز مرحلة الادعاء بقبول الديمقراطية والاستعداد لاصلاح دولته ونظامه ليوفر الفرصة لأجنحته المتناحرة حتى ترسخ سلطتها من جديد .
كان طبعا غياب قوة ديمقراطية حداثية قادرة على اسناد المسار الديمقراطي والانتصار اليه وقادرة على الاستثمار والتعاون مع عمق بشري للشارع النهضاوي والاستفادة من جناح تجديدي داخل هذه الحركة يعج بالمناضلين والمناضلات المنتصرين حقا للخيار الثوري الاصلاحي والتقدمي، كان هذا الغياب لقوة ديمقراطية حداثية ، سببا اخر في الارتباك خصوصا بعد الاختراقات و التشظيات الرهيبة في حزب المؤتمر والتكتل وتمكن اليسار الوظيفي من جذب حزبي العمال والبي دي بي الى مناكفة ايديولوجية مع حلفاء الامس في مقاومة الاستبداد بما يعني الانخراط موضوعيا في مواجهة الديمقراطية بدعوى مواجهة النهضة .
سوف يأتي انقلاب 25 جويلية على انقاض هذا الوضع كان فيه المطلب الديمقراطي يتيما بلا رعاة ولا ناصرين اذ تنفست نخبة السيستام واذرعها الوظيفية وخلاياها الفاشية الصعداء حين اعتبرت ان غلق قوس الانتقال الديمقراطي هو انهاء حقبة " النهضة " وسوف يتم الاشتغال باستمرار بهذه النغمة على وعي شعبي مهيأ بطبعه الى اعتبار ان الديمقراطية والثورة والسياسيين لم يأتوا بشيء اخر الا النهضة وحكمها الذي لم ينجز .
عندما انطلقنا في مبادرة مواطنون ضد الانقلاب كنا على وعي تام بأن " الدعاة الى الديمقراطية " هم امام مهام عديدة ومركبة ومعقدة لمواجهة كل هذه المصاعب اعلاه حتى يمكن " التمكين للعقيدة الديمقراطية " من جديد في الوعي الوطني والتأكيد على انها حتمية تاريخية لا مناص منها اذا اراد العرب دخول التاريخ ومقاومة التخلف وبناء الحياة الكريمة وان عشرية الانتقال المتعثر واخطاء السياسيين لا تعني ان الديمقراطية سيئة وان الثورة خطا تاريخي .
كنا واعين بانها مهام معقدة تنتظرنا .. اولا لتثبيت التصدي الميداني ودحض المشروعية الشعبية المزعومة لقتل الديمقراطية وثانيا وفي نفس الوقت لنواجه التنمر والهرسلة من تيارات واطياف ونخب مستعدة للتحالف مع من ينحر الديمقراطية ليريحهم من الخصم الايديولوجي ومستعدة لوصمنا بكل الاوصاف البذيئة لاننا نرفض الانقلاب.
و لكننا كنا مقتنعين ايضا ان البناء المستقبلي يقتضي مجهودات مع التيارات السياسية التي اثثت العشرية وقادتها وتريد الان ان تقود معركة استعادة الديمقراطية وكنا ندفع نحو صياغة ملامح العرض السياسي الجديد و تجديد الطبقة السياسية وخطابها وتطوير الحوار والتقييم بين الفرقاء الديمقراطيين الذين فرقتهم العشرية وكنا نعتبر ان النهضة باعتبارها الحزب الاهم والاكبر هي موضوع من مواضيع هذا النقاش والحوار والتطوير فما يجري لها وعليها ينعكس على البلاد تماما كأي تيار فكري اخر يحتاج بدوره الاستجابة الداخلية لمقتضيات تطور الواقع وديناميته .
كان من المفروض ان يتواصل الوعي بهذه المهام المعقدة والمركبة مع تشكل جبهة الخلاص ومع تشكل الخماسي ثم الرباعي الحزبي وكان من المفروض ان ينفتح الاتحاد اذا اراد ان تكون مبادرته فعلا للإنقاذ الديمقراطي على هذه المهام التي نصر على مواصلة طرحها لأننا نعتبر الديمقراطية قدر العرب والتونسيين للتقدم والنهوض ولذلك يجب ان نعد شروط تأسيسها لا ان نتحالف على قبرها .
يد تقاوم الاستبداد ويد تؤسس للجديد بالتنظير والتهيكل ...هذا شعارنا الذي رفعناه وقتها ...لكن من يقدر على ذلك ...ننتظر ..