حقائق الواقع اقوى من رغباتنا السياسية .. هذا ما يجب علينا التسليم به في هذا المنعرج الوطني الذي يواجه البلاد ..
حالة التشتت السياسي التي ظل يفرضها الواقع الانتخابي و نظامه عسرت على امتداد سنوات مهمة الحكم لكل الحكومات المتعاقبة في سياق مشهد سياسي اتسم باستمرار بالمناكفات و الاستقطابات و الصراع البدائي على مراكز النفوذ اضافة الى ارث الفساد الذي تفاقمه بطبيعة الحال مسارات الانتقال و احتياج البلاد الى نضج الطبقة السياسية التي لا تكفيها سنوات قليلة لاكتساب الرشد و المسؤولية الوطنية و قدرة اقتراح المشاريع الوطنية .
الفيروس اللعين و ازمة الاقليم و الحراك العاصف في منطقة عربية متحولة جذريا منذ اكثر من عشريتين يأفل فيها عالم قديم و لم يستقر فيه وجه العالم الجديد في القرن 21 و هي كلها عوامل معسرة للاستقرار الوطني و التوافق الضروري على مشروع الانجاز الوطني لتونس الجديدة بانتظاراتها المتعددة سياسيا و اقتصاديا و حتى ثقافيا و وجوديا .
ليس الامر مجرد انتقال سياسي بسيط كما تصوره المعارك الصغيرة لطبقة سياسية قديمة استنفذت حلولها و جديدة لم تكتسب قدرة انتاج الافكار .يكفي ان نكبر زاوية النظر حتى نقتنع اننا في وضع ولادة جديدة و كبيرة شبيهة بمراحل التحولات العظيمة التي تشهدها الانسانية قاطبة . و عندها لن نجلد انفسنا كثيرا و لن نعذب مشاعرنا اكثر بأحساس الاحباط و الخيبة .
المطروح اليوم على الساحة السياسية التونسية اقتراحان كبيران :
الاول تحوير حكومي واسع يمتلك فيه رئيس الحكومة فريقه المتجانس و يحسم " معركته " مع قرطاج في تنازع الصلاحيات و يجنح اكثر الى أصل السلطة تحت قبة باردو . هذا التحوير يبدو متجها اليوم الى تخفيض الصورة "المستقلة " للحكومة لتسييسها اكثر عبر توسيع " وسادتها" دون حسم واضح ان كانت التسميات الجديدة ستكون حزبية ظاهرة او كفاءات من اقتراح الاحزاب .
كتل القلب و النهضة و تحيا و الاصلاح و الوطنية مع عدد من النواب المستقلين تبدو تحصيلا حاصلا و لكن المطروح للتوقع هو مدى نجاح المشيشي في اقناع الكتلة الديمقراطية او جزء منها للالتحاق بالحكم و مغادرة مقعد المعارضة .
هذا الاقتراح الاول في المشهد السياسي يبدو اكراها لا مناص منه اذا ارادت البلاد ان تذهب الى الترتيب الجديد في الاقليم و المنطقة وهي بحكومة وطنية واسعة ليس بالضرورة ان تتطابق كليا وجهات نظر الاطراف المشاركة فيها و لكنها قد تتقاطع مرة اخرى على مشترك الادنى الوطني للإنجاز الاقتصادي و الاجتماعي الذي يعيد للناس الاحساس بالأمل بعيدا عن دعوات الاسقاط و الكسر غير مأمونة العواقب و التي تصطدم اصلا بالعجز بما هو اعدل الاشياء قسمة بين جميع الاطراف التي يحكمها توازن الصعف .
ثانيا و بالتوازي مع هذا الاقتراح يتنزل اقتراح الحوار الوطني الذي طرحه الاتحاد و وافقت عليه قرطاج و باركه باردو وهو لا يتناقض على كل حال مع المقترح الاول اذ يمكن ان يأخذ الحوار راحته في صناعة مخرجات التوافقات الوطنية الكبيرة في الاصلاحات الهيكلية الاقتصادية و الاجتماعية و تجاوز تباين وجهات النظر في بناء الاستراتيجية التنموية القادمة و معالجة بعض الملفات السياسية العالقة لا سيما النظام الانتخابي و استكمال او تجديد المؤسسات الدستورية و الهيئات ..
التحوير و الحوار خياران يتناغمان و لا يتناقضان شرط ان تذهب القوى الوطنية الى مربع البراغماتية العقلانية بعيدا عن غرائزية صراع عقيم لا معنى له و لا جدوى من ورائه ...هذا اقتراحي في القضية يعني.