يجب ان نقر الان جميعا بلا اسف او فرح بل بكل حياد بارد كما يعلن طبيب حكمه امام جسم مريض ان مرحلة جديدة يدخلها الانتقال / الصراع الديمقراطي في تونس يصبح فيها كل التناقر " العامي " بالتوصيفات " الكبيرة " بين الفرقاء مجرد ماعون صنعة للتعبئة لا يحسن ان يأخذه المتابع الحصيف للمشهد السياسي محمل الجد.
في سنوات الثورة الاولى اي في " مرحلتها المكية " وحقبة "البعثة" كان الصراع بين الجديد " الغائم " والقديم "المتصدع" يتم عبر استعمال التصنيفات الكبيرة ...ثوري / مش ثوري ...تقدمي / رجعي ...فاسد / صالح ...حداثي / قدامي ...رسولي / شيطاني ...الى اخر ذلك من استقطاب فسطاطين ظاهرين و بينهما برزخ و هويات متشابهات لا يعلم تأويلها الا التاريخ و الراسخون في " علم الرجال " و مناهج الجرح و التعديل في عقود الاستبداد …
بعد استقرار سفينة الصراع على جودي التسويات انطلقت السياسة المحضة بقواعدها البشرية كما صاغها صاحب الامير ماكيافيل و كما تفسرها علوم العمران و السلطة من ابن خلدون الى فيبر اي عبر المقايضات و تنازع مربعات النفوذ التي اصبحت في متناول الجميع بصناديق الاقتراع التي يسبقها صراع القوى بقدرات الاعلام و الاتصال و صناعة الرأي و العلاقات الدولية و الامكانيات المالية و ادوات القوة الرمزية و المادية.
الصراع الذي اندلع داخل كل فسطاط من الفريقين المتقابلين أنهي التقابل الطهوري بينهما. تخاصم جماعة القديم فيما بينهم وقالوا في بعضهم ما قاله مالك في الخمر وانتهت بذلك قداسة السردية التي واجهوا بها " ثورة الرجعيين " ثم تصدع الجديد وأصبح بين " صحابته " صراع سقيفة وجمل وصفين. تداخلت التحالفات بالزواج المختلط الذي مارسه الجميع من الفسطاطين بلا استثناء.. نقول جيدا الجميع ... وتمازج النسب وانحلت العصبية الاولى التي طبعت بداوة التأسيس المتقابل ودخلنا في " ترف " استقرار الصراع السياسي بما هو مهارة وحيلة وذكاء ...ذاك هو مجرى كل سفينة انتقال ديمقراطي ومرساها …
كفوا جميعا عن تصديع رؤوسنا بطهرية التقابلات المكية ولنذهب جميعا الى تحليل صراعات " المدينة " بقوانين السياسة الموضوعية ...شكون ربح وشكون خسر ومن لاعب الاخر وسجل ...وكيف تذهب الامور عبر توقع حركة الاوراق وتنقلات البيادق على الرقعة ...دون ذلك مناكفات تضحكنا ولا تقنعنا ...لن يرجمها أحد فالجميع بخطيئته الاصلية مثل بني ادم كلهم ...قف انتهى.
فرصة الاكراه على تسويات الضرورة ..
ليس العناد واوهام المواجهات القادمة بين " القوى " سوى اعداد نفسي للاتباع المتحمسين من كل الجبهات لإكراهات واقع ليس فيه " قوى " اصلا تقدر على المواجهات في بلد يحكمه توازن ضعف فاعليه الاساسيين وان كان عنادهم "الانكاري" يرهقه.
جاء التكليف الرئاسي للمشيشي ضمن " سردية " مفترضة لرئيس جمهورية يصدر نظريا عن رؤية تتلخص في افتراض نهاية " مشروعية " منظومة قوامها الاحزاب الحالية و البرلمان والنظام الانتخابي القائم في ديمقراطية تمثيلية يعتبر قيس سعيد انها قاصرة.
رؤية رئيس الجمهورية هذه تستمد " نظريا " امال نجاحها من ملل شعبي فعلي مكتوم من واقع حزبي وبرلماني لا يلبي حاجات الناس وانتظاراتهم.
وتفترض هذه الرؤية ان قوتها مستمدة من " طراطيش " معلومات تضخم اسطورة تشكل "تيار قيسي " يتنظم في " تنسيقيات " مفترضة.
ويرتفع منسوب فرح " استيهامي" بهذا " التيار " الذي تتمناه قوى متناقضة بعضها صادق ثوري ونخب انتظارية غادرت منذ سنوات مواقع التحزب التقليدي المحمول على " الثورة ".
لكن يبرز هذا " التيار الرئاسي " املا ممكنا لقوى اخرى تنتمي بشكل مفارقي "بارادوكساليا" الى القوى المضاددة للانتقال والثورة او المضاددة ايديولوجيا بالأساس لإسلام سياسي يراد طحن ثوم "تغوله " بأضراس " قيس " وهي قوى متعاركة مع "الاخوة الاعداء " من مشتقات منظومة تتبلور في حزب قلب تونس والكتل " الدستورية " التي خانت العهد " الندائي " المؤسس بتحالفها مع " الاخوان. "
كما تدعم هذا التيار " الرئاسي " ايضا بشكل ضمني تكتيكي القوى الخارجة مثخنة من تجربة ائتلاف حكومة الفخفاخ ونقصد التيار والشعب.
لم تستمر طويلا قوة هذه الرؤية التي هندست حكومة المشيشي .فقد كان من الواضح ان اعضاء الحكومة و رئيسهم المكلف قد فهموا سريعا مكان " مربعات النفوذ " و مصادر "الشرعية " للاستمرار في الحكم فذهب المشيشي و رفاقه سريعا الى " حضن " الاحزاب و " البرلمان " دفعهم الى ذلك " ذكاء و براغماتية " حزب الادارة او بيروقراطية الدولة كطبقة اجتماعية تخلقها الدولة كما وضح ذلك منذ قرن "بولينتزاس " في مراجعته للنص الماركسي المؤسس الذي يسمح لنا بالقول ان الدولة يمكن ان تخلق الطبقة و ليست هي انعكاسا للطبقات بالضرورة و تلك حكاية كبيرة ليس هنا مجال تفسيرها .
لم يكن خطاب الرئيس الغاضب الا اعلانا " مأساويا " لخيبة البطل التراجيدي الذي لا يبقى له في لحظات الذهول والمفاجأة الا اعلان طهريته الوجودية وصدقه في " مواجهة الخيانات " حين يكون المشروع مجرد رفع سيزيفي للصخرة الى اعالي جبل لم يفهم تعقيده ونتوءاته.
مكر التاريخ و حتمياته بلورت مشهدا سياسيا ليس المطلوب ان يتجرع بعض فاعليه مرارة الخيبات و يتمسك طهريوه بامل انتفاضة البطل الذي ينتظرون منه ان يحارب بمجرد ان يصرخوا في الساحات " حنحارب " لثنيه عن خيباته. و ليس المطلوب ايضا ان يفرح فيه المنتصرون بتشكل جبهة لا تملك مقومات قيادة بلاد تحب الانجاز طبعا و لكنها لا تنسى طوباوية المبادئ و لا تقبل بتسويات المهانة و ان خاب ظنها في " البطل التراجيدي " .
المطلوب هو انحناء الجميع الى واقعية التسويات المؤقتة ليبقى وطن تنجز فيه الحلول الكبرى والدائمة حين ياتي وقتها. ستكون حكومة المشيشي و البرلمان الحالي بجبهته الاكبر حاليا هي مدار التسوية وسيذهب قيس سعيد الى الهدنة في عامنا هذا بلا حج والسيوف في اغمادها ولن يكون لجبهة المشيشي وسندها البرلماني بالنهضة والقلب وغيرها خيار الانتصار الدغمائي الساذج على الخصم.
لا غالب ولا مغلوب " اللبنانية " هي المعادلة القادمة تونسيا ولن تكون " السردكة " المتبادلة الا ماعون صنعة لاستهلاك الاتباع. البلاد تفرض علاجها والتاريخ ينجز سنته ولن تجد لسنة التاريخ تبديلا ...قف انتهى.