حدد احد المفكرين العرب ،واظنه اسماعيل الشطي ان لم تخني الذاكرة ، سلم صياغة القرار وصناعته في الدول القوية . في الترتيب الثاني من السلم يأتي صانعو الرأي من الاعلام الى منظمات المجتمع المدني والاحزاب وغير ذلك من الوسائط التي تحول تلك الافكار الى رأي عام يعتقد فيه الناس ويعبرون عن الرغبة في انفاذه بطرق متعددة ومختلفة بحسب تعدد وتنوع وجهات النظر التي تدور اختلافاتها كلها تحت سقف ذلك التصور العام الذي صنعته " النخب " .
في الرتبة الثالثة يأتي صانعو القرار او المشرعون الذين سيحولون تلك الافكار الى قوانين في مجالس التشريع او البرلمانات . وفي اخر سلم الترتيب يوجد المنفذون اي الحكومات المركزية او المحلية التي تتداول على التطبيق او التنفيذ عبر الانتخابات التي تتم اساسا عبر تصعيد المشرعين اي صانعي القرار الذين ذكرناهم في المرتبة الثالثة .
بهذا الترتيب تكون المجتمعات محصنة في سياساتها العامة وخياراتها الكبرى التي لا يصوغها احد الا " نخبتها " .
من المؤكد ان هذا الترتيب قد يختل في لحظات الازمة حين تتأزم مثلا وضعية النخب في لحظات التحول الكبرى فتختلط عليها السبل او حين يأخذ مكان النخب حشود الشعبوية العمياء كما وقع في اوروبا اوائل القرن العشرين او كما يقع الان في الغرب عموما مع موجات الشعبوية المعاصرة في ظل ازمة الديمقراطية التمثيلية الراهنة او مع هذه الثورة الاتصالية التي اصبحت مدخلا خطيرا للتافهين و عديمي الخبرة للتحكم في صناعة الافكار والرأي والقرار . لكن هذه الازمة سرعان ما يتم تجاوزها عبر مسارعة النخب بطرح الاسئلة ومعالجة المأزق وفتح مخابر التفكير والنقاش لأن هذه المجتمعات خلقت رغم كل شيء وسائل حصانتها.
في العالم العربي يقف على رأس سلم الترتيب في صناعة الافكار : البوليس والمخابرات والادارة. وهي على العموم الاجهزة التي تمثل جوهر الدولة ما بعد الكولونيالية بما هي دولة موضوعة من قوة الاستعمار القديم اسسها قبل المغادرة منقوصة من عنصر اساسي للدولة الحديثة وهو عنصر "المؤسسات" و اهم مؤسسات الدولة الحديثة هي مؤسسة "النخبة " اي هيكل صناعة الافكار .( يترك المستعمر القديم لنفسه مهمة صناعة الافكار في مستعمراته عبر نخبه الموضوعة في اجهزة الدولة ) .
وفي هذا السلم المرتبك في العصر العربي الراهن تحول " الاعلام " من مؤسسة ثانية لصناعة الرأي العام وفق الافكار التي تصنعها النخبة العالمة الى مؤسسة اولى لصيقة بالاجهزة تصنع معها الافكار وتمارس لصالحها الدعاية وبذلك تحول الاعلام بنجومه الذين يتم اختيارهم في العادة من ادنى درجات سلم النخبة الى مجال لنشر الرداءة او تزييف الحقيقة او صناعة اللاعقل .
وبذلك يصبح سلم صناعة الافكار، ثم الراي، ثم القرار، ثم التنفيذ مقلوبا وتهمش النخبة وتختلط المجالات وبذلك يتم تأبيد التخلف .
الازمة اليوم ان ظاهرة الرداءة تحولت الى موجة عالمية وغير محلية فقط نظرا لازمة التحول الكبرى التي تعيشها الانسانية ولذلك سيكون كل خروج من هذه الازمة فعلا مركبا يحتاج اشتغالا على المحلي وفي نفس الوقت قدرة على تحصين الذات الوطنية من الرداءة المعولمة .