العرب في مواجهة مصيرهم: دولة المواطنة أو محارق الاحتراب
حيثما وليت وجهك في العالم العربي الفقير فثمة مجتمعات تغلي كالمرجل انقساما افقيا ، بين افراد الشعب، طائفيا ومذهبيا وجهويا وطبقيا وقيميا اي نمط حياة أو ايديولوجيا في بعض المجتمعات العربية التي تملك هامشا صغيرا من الحرية السياسية . وحيثما توجهت في هذا العالم الا ولمست حجم التوتر العمودي بين الدولة والمجتمع.
نصف قرن مضى وعشرية اخرى في القرن الحالي ذاك هو تقريبا عمر ما يسمى بالدولة الوطنية او القطرية او دولة الاستقلال او ما بعد الكولونيالية والتسميات المختلفة لهذه الدولة في الخطاب العربي هي مواقف او احكام قيمة ايديولوجية على هذه الدولة مما يؤكد عدم اتفاق الفكر العربي على طبيعتها او حقيقتها فهي عند العروبيين او الاسلاميين قطرية لا وطنية وهي عند السياديين مابعد كولونيالية لا دولة استقلال فضلا عن الاوصاف التي وصمتها بها المدارس الايديولوجية طيلة النصف الثاني من القرن العشرين من كونها نظاما طبقيا او فاشيا او عميلا الخ .
هذه الدولة يقصد بها غالبا النظم السياسية التي اقامتها نخب الحركات الوطنية التي استلمت حكم بلدانها من الحقبة الاستعمارية بعد اعلانات الاستقلال أو حكم النخبة العسكرية التي انقلبت على الملكيات السابقة واستكملت ما تسميه بمعركة التحرر الوطني . تستثنى دول الريع النفطي الخليجية عادة من هذا المفهوم نظرا لطبيعة نشأتها المختلفة ولعلها حاليا اقل الدول تضررا من الانقسام الافقي والعمودي الذي تعيشه المجتمعات العربية المحكومة "جمهوريا " .
المكاسب العديدة التي تباهت بها " الدولة الوطنية " العربية بعد السنوات الاولى من الاستقلال -في مجال الخدمة الاجتماعية ( الصحة / التعليم / الخ ) وفي مجال "التحديث" والادماج المواطني وتجاوز التركيبة التقليدية - هي مكاسب بدأت في الانهيار مثل قصور من تراب بمجرد سقوط الاستقطاب التقليدي بين المعسكرين الغربي والشيوعي ودخول عصر العولمة والتحولات الاقتصادية العاصفة وبداية النهاية للقيمة الوظيفية لهذه " الدولة " .
يتأكد بعد عشريتين من عمر القرن الجديد ان هذه " الدولة " لم ترق الى مرتبة " الدولة " بمعناها في قاموس الفلسفة السياسية الحديثة حيث بقيت " دولة ما دون الدولة" كما سماها ياسين الحافظ .
لقد كانت بالأحرى " نظام régime". اي مجرد حكم نخبة تحولت الى "طبقة" بالمعنى الذي صاغه بولينتزاس ( الدولة تخلق طبقتها في مقابل التصور الماركسي التقليدي في اعتبار الدولة حكم الطبقة الاقوى ) وظلت متخارجة عن المجتمع تشكله عبر " الأجهزة" وتشرف على ادارة اقتصاده وثرواته في سياق نظام زبائني ممركز .
وبتطور عزلة هذه الدولة او تخارجها عن المجتمع واندلاع الصراعات البينية داخل نخبتها التأسيسية الحاكمة تتحول هذه الدولة/ النظام غالبا الى نظام حكم فردي عائلي أو طائفي أو عشائري او جهوي اذ يضطر " الحاكم" الى رفد سلطة الأجهزة العارية من الشرعية بدعامات اخرى من طبيعة "ما دون دولتية " ( قبل حداثية ) اضافة الى اصطناع دعامات وظيفية ذات لبوس حداثي ( مجتمع مدني ومنظمات واحزاب ومثقفين واعلام واكاديميا بدون تمثيل حقيقي بما يجعلها هياكل وظيفية ).
بمجرد تخلخل " قوة " هذه الدولة في العشريتين الماضيتين عبر عوامل داخلية (ثورات الربيع ومضاددتها ) او خارجية ( غزو العراق ..المؤامرة على سوريا ) حتى تبين هشاشة المجتمعات العربية و نظمها وعجز الدول الوطنية عن ان تكون وطنية بمعنى القدرة على تغطية كل المجال الوطني وضمان الاندماج وتحديث المجتمع وبناء المواطنة بمعناها الحديث فارتدت هذه المجتمعات الى صورتها " الطبيعية " ما قبل المدنية لتدخل في وضعيات احتراب اهلي بارد او ساخن في شكل طوائف عرقية او مذاهب عقائدية او تكتلات جهوية او طبقية وان اتخذت أحيانا لبوسا "سياسيا" بعبارات " حديثة " تعبر عنها الاحزاب بما هي تشكيل عربي معاصر للطائفية او القبلية تتكلم بعبارات السياسة مثل "الثورة " او " الوطنية " او "الهوية" أو " العلمنة " او "الاسلمة " أو" الديمقراطية " .
ما يظهر منذ سنوات قليلة عبر "الانقلابات" على الثورة بعد تعطل الانتقال الديمقراطي وما عمقه هذا الانتقال من مخاطر الانهيار وخصوصا في الحالتين المصرية والتونسية جعل البعض يعتبر ذلك بمثابة " انتفاض " "الدولة الوطنية" لاستعادة مجدها وسلطتها من " خصومها" وقد ذهب الى ذلك المفكر المغربي القومي عبد الالاه بلقزيز ضاربا عرض الحائط بكل افكاره السابقة في ثمانينات القرن الماضي حين كتب في "هجاء" الدولة الوطنية وزيف حداثتها و كذب علمانيتها ونسي ما عمل عليه في المؤتمر القومي العربي ومنتدى الحوار القومي الاسلامي للدفع بالفكرة الديمقراطية في مواجهة الاستبداد العربي .
الحقيقة ان ""الدولة / النظام " تبدو في عودتها الراهنة أكثر عجزا من كل عمرها على ضمان الدمج والاستقرار والتقدم فما يعود بعد موته لا يكون الا خطرا يهدد في شكل مهزلة او ماساة . لم تجد هذه الدولة/ النظام وهي تعود أكثر من قوتها الصلبة (ادوات العنف الشرعي اي الجيش والامن ) لتتدارك ضعفها في مواجهة صخب التحولات ولتنتصب من جديد مجرد " حكم عسكري او بوليسي " في لبوس مدني وان كان الجديد عندها هذه المرة ليس النطق السياسي باسم الحزب الحاكم الواحد كما كانت سابقا بل عبر "انتداب" تيار شعبوي من عموم الكسور الحزبية والايديولوجية المهملة والخاسرة في صناديق الانتقال الديمقراطي " لتؤمم " عبر هذا الحزام السياسي المتنافر الالوان كل الخطابات المطروحة على الساحة وتصادرها لتصبح ناطقة باسمها في تركيبة "مخلوضة" لا تملك الا الشعار : الوطنية / التحرر الوطني / السيادة / العدالة / الثورة / تصحيح المسار / المحاسبة / الأصالة / الهوية / وان لزم قد تنطق حتى بتطبيق الشريعة .
عوضا عن تحمل اتعاب ومصاعب التأسيس الثاني لدولة المواطنة والحرية يختار العرب المحجوبون عن حركة التاريخ " تجمير البايت" ( تسخين بقايا الطعام) عبر استعادة قعقعة سلاح الاجهزة و تسلطية القديم بزعم انه " الدولة " في مواجهة اعدائها .لكن ذلك قد يقتل الديمقراطية الا انه لن يؤسس التنمية والاستقرار والوحدة الوطنية فلو كان القديم فالحا لنجح البارحة .
ان عودة " النظام " المسمى خطا " دولة وطنية " لن يكون اكثر من عودة " العازر" حين أحياه المسيح محذرا زوجته انها لن تجده كما كان حين كانت تحبه وستعصف عودته المصطنعة بصورته الجميلة المركوزة في ذاكرتها فهو اليوم يحمل رائحة القبر وعبق الموت.