منسوب ثقتي في استعادة جو الحريات والانفراج تمهيدا لعودة الحكم الديمقراطي أصبح مرتفعا بقدر كبير لأسباب عديدة :
اولا :
من الواضح ان حيوية النخبة السياسية التونسية ورفضها المكتسب للتسلطية والاستبداد أصبح جينة اساسية في الطبقة السياسية التونسية بعد عقود من مراكمة ثقافة معارضة الحكم الفردي في العهدين البورقيبي والنوفمبري وبعد عشر سنوات من انتقال ديمقراطي عسير تعمق فيه الاستقطاب والانقسام ولكنه منح النخب والنشطاء احساسا بكرامة المواطنة وقيمة المشاركة في ادارة الشأن العام .
ثانيا :
رغم ان مصائر الأوطان تصنعها النخب لا العوام فان الطيف الغالب على الشعب التونسي هو طيف متعلم وميال الى اجواء المشاركة السياسية والحرية ويضيق بأجواء القمع والاقصاء وتغول الدولة على المجتمع.
فئة واسعة من التونسيين غضبت من طبقتها السياسية في عشرية الديمقراطية السائلة وربما اتجه عدد من هذه الفئة الممثلة للوسطية الى مساندة صامتة لرجة 25 جويلية 2021 لاستعادة الجدوى من السياسة ولكن الذكاء السياسي لهذه الفئة جعلها تدرك سريعا ان " 25 " ليس مشروع تصحيح بل مجرد لبوس شعبوي شعاراتي بدون انجازات يزعم الانتساب للثورة ليستعيد فيه بقايا قديم ونظام بائد تلك التسلطية وذلك الحكم القمعي المغلق الذي لا ترتاح اليه الاغلبية التونسية المتعلمة والميالة الى حكم حديث يليق بمواطنتها. وقد بدأ التونسيون ينفضون فعلا من حول 25جويلية منذ سنته الاولى وأصبح الأمر اليوم ظاهرا بالعين المجردة .
جغرافية الشعب التونسي لا تمثلها في الحقيقة تلك القلة الانتهازية من " السياسيين والاعلاميين " المساندين لكل حكم تسلطي ولا تمثلها ايضا بعض الجموع قليلة الحظ من الثقافة والتي يضطرها وضعها الاجتماعي الى المساندة الغريزية " للحاكم " رغبة في استعادة " دولة زبائنية" تمنح مقابلا على طاعتها.
ثالثا :
ومما تقدم يتحدد مصير كل نظام حكم في تونس - عبر التاريخ الطويل للصراع بين الدولة و المعارضة - بطبيعة الحزام السياسي الذي يسند السلطة وطبيعة المعارضة التي تقف في مواجهتها .
تظل السلطة في تونس تاريخيا قوية كلما كانت قادرة على تعبئة حزام سياسي محترم من النخبة والسياسيين والمثقفين تتمكن بواسطتهم من ضمان توازنها مع المعارضة التي كانت باستمرار تضم قامات محترمة فكرا وقيما واشعاعا . ولكن السلطة كانت تترهل وتضعف ويبدأ الايذان بنهاية عهدها كلما اصبحت عارية من نخبة محترمة ولم يبق حولها غير سقط المتاع السياسي والثقافي .
صحيح ان المعارضة التونسية على مر تاريخها لم تتمكن من تحقيق التغيير الناجز لكن السلطة كانت دائما مضطرة لتغيير نفسها كلما ترهلت عبر شحن قيمتها الاخلاقية والسياسية بانتداب حزام جديد ذي مصداقية من المعارضة نفسها . وقد سقطت سلطة بن علي في 14 جانفي حين اصبح حزامها مكونا من أردا ما انتجته الساحة ورفضت المعارضة المبدئية ان تجدد للسلطة حزامها الا بشروط لم يكن بن علي قادرا على تلبيتها ولم يضطر الى قبولها الا في ليل 13 جانفي ولكن الوقت كان قد حان لرحيله .
حين ننظر بعد ثلاث سنوات في الحزام "السياسي" و "الاعلامي " الذي بقي الان في الدفاع على خيارات السلطة ونقارنه بالنخبة والطبقة السياسية والحقوقية التي اصبحت في معارضتها يمكن ان نقول ان دينامية التغيير وجاذبية الانعتاق اصبحت اقوى من امكانية المحافظة على الراهن . من الواضح ان تونس الوقورة والمثقفة اصبحت كلها الان في صف الدفاع عن استعادة الحريات والديمقراطية وان السلطة لا تملك اكثر من " مناصرين " يواجهون خطاب المعارضة بمجرد اشارات والفاظ نابية هي خلاصة خطابهم " السياسي " على الفايسبوك او " محللين" على الاعلام التقليدي يمارسون اصعب الحركات الجسمانية لتبرير ما لا يبرر بجمل شبه سياسية وبسودو اعلامية بائسة لا تتجاوز بدورها خطاب التخوين وما عرف من مدارس " اعلام نظم الاستبداد العربي" في القرن العشرين .
ذاك هو التاريخ التونسي وعقله ..يصعب تماما ان تميل الوسطية التونسية كثيرا الى التسلطية الرثة . يكفي ان نقول بأن العقود الثلاثة تحت حكم بورقيبة والعقدين تحت بن علي كانت فيها السلطة مضطرة الى اجراءات تغيير انفراجي دوري يأخذ غالبا بعين الاعتبار رغبة التونسي في ان يعيش في اجواء تليق بكرامته ولم تستطع السلطة في تونس عبر تاريخها المعاصر ان تستمر كثيرا في سياسة الانغلاق الكلي على طريقة نظم الحكم الدموية في المشرق العربي .
هذا كله مدعاة لتفاؤلي ان هذا العبث التسلطي لن يستمر طويلا وسيصبح مطلب الانفراج مرحليا هو المطلب الرئيسي تمهيدا لمطلب عودة الديمقراطية الكاملة استراتيجيا .