(تأملات في علم النفس السياسي )
من الملاحظات التي يمكن الاشتغال عليها في مجال علم النفس السياسي أن اليسار الاجتماعي و النشطاء الحقوقيين من عهد بن علي هم الاكثر دربة على قيادة المعارك في مواجهة تغول الدولة و مؤسساتها …و لقد تمكنت قلة قليلة منهم على امتداد السنوات الثلاثة الماضية من استثمار هذه المهارة النضالية في انقاذ نشطائهم من فك القضاء و الأمن و حتى من اجبار مؤسسات الدولة على خرق القانون أحيانا لاطلاق سراح زملائهم و هو أمر محمود في وضع انتقالي يمكن فيه أحيانا استعمال القانون للتشفي من النشطاء في أجواء الثورة …
لقد تمكن اليسار الاجتماعي و حقوقيوه بمهارة مكتسبة في حسن استعمال الشارع من اجبار الامن و القضاء على الاعتراف بانتقالية المرحلة الثورية و استعمال القانون بمرونة حتى مع من خرق القانون و دعا الى التمرد …
ان الوجود دائما على يسار الدولة لا تحتها و الكف عن خشيتها و الثقافة الحقوقية التي تعتبر الدولة وسيلة لا غاية هما المزاج الذي تشبعنا به في شجاعة مواجهة بن علي في سنوات الالفين وهو نفس المزاج الذي تمكنت به الجبهة الشعبية مثلا من مقارعة الدولة في عهد الترويكا رغم قلة عدد انصار الجبهة و كثرة انصار الترويكا و بقطع النظر عن الاعلام و غيره فان الأمن و القضاء كان يخاف نشطاء الجبهة و شبابها على قلتهم لنجاعتهم في تحجيم "الهيبة المزعومة" للدولة و رموزها وهو من الناحية الايجابية كم ضروري من جرعات الجرأة لبناء مواطن لا يخاف الدولة التي تتجه باستمرار الى ان تكون تطبيقا مبالغا فيه للقانون …
في المقابل و بمناسبة قضية الجوادي لاحظت بشكل لم يفاجئني انخفاض ثقافة المواجهة الحقوقية و ضمور شجاعة التحدي لدى النشطاء الجدد من "قادة المساجد" و اصدقائه من الائمة الذين ذابوا كالملح و لدى عموم اتباعهم من المتدينين و أنصار "التوافق" مما جعل المؤسسة الامنية و القضائية في هذه الفترة الانتقالية تأخذ راحتها في تطبيق "القانون" حرفيا و في أقسى و أقصى درجات تطبيقه دون أن تجد أجواء سياسية أو مزاج غضب تحذر منه و دون أن تحذر من توفر مهارة في استعمال الحشود يمكن الخشية منها. .
ان جزء من الثقافة الحقوقية و النضال المواطني هو التدريب النفسي على اعتبار أن المعارك الحقوقية هي ميزان قوى نقدر على استعمالها في مواجهة الدولة و هي في كل المجتمعات و في كل العصور آلة صماء تحتاج الى من يوازنها من الشجعان السلميين حتى يتم اجبارها على ان تستعمل من القانون ادنى درجاته و هذا هو التعديل المواطني ….
بحشود مرعوبة و موغلة في "تقديس" الدولة و مسكونة باعطاب الذاكرة المرعوبة لا نبني توازنا بين الدولة و المجتمع .
اليسارية و الشجاعة الحقوقية السلمية هي التي تمنح المواطنين احساسا بالاشباع في المناكفة السلمية للدولة و هي التي تحصن المواطن من الاحساس بالعزلة و الضيم و كره الدولة الذي يحوله الى الخيارات الارهابية .
الارهابي الهارب للجبل هو خائف مرعوب من دولة لم يشبع ذاته بتحديها حقوقيا . الشجاعة اليسارية كثقافة و الجرأة الحقوقية على الدولة هي التي تجعل المواطن مواطنا عزيزا أما المواطن المسجون في خوف الذاكرة المرعوبة فهو مناخ مؤهل للتحول الى كائن عنيف . (المقصود باليسارية مفهوم ثقافي لا ايديولوجي عقائدي)