افاق الصراع السياسي في تونس
على امتداد صيف طويل وساخن وبعد بقايا ربيع حزين واصلت " جبهة الخلاص الوطني " وقفاتها الأسبوعية في اسناد المعتقلين السياسيين رغم قلة العدد ومحاصرة الحركة الديمقراطية واعتماد سياسة تعميم الرعب التي اتجهت اليها سلطة القوة العارية .
وقفات الشباب وعائلات المعتقلين بخطاباتهم المفعمة بالشرف والشجاعة امام مدارج المسرح تحت رعاية صامتة للزعيم الديمقراطي التاريخي نجيب الشابي في مقابل وقفات رئيس السلطة القائمة خطيبا في الفراغ محاطا بالكومبارس وموظفي مسار بلا افق ، صورتان مليئتان بالرموز بين :
* حركة ديمقراطية نحيلة مثل جسد زعيمها تحوز على كل خصال الأخلاقية النضالية وتشد على جراحها لتنهض من رمادها في افق استجماع ممكن و قريب لمقومات القوة اذا أحسنت صياغة نصها في استخلاص دروس الماضي وقراءة تفاصيل الحاضر واستشراف المطلوب لاعادة الانصهار مع شعب يمكن ان يدرك قريبا ان الديمقراطية والحكم التشاركي في دولة المواطنة والمؤسسات هي التي تحقق له انتظاراته التي خذلتها عشرية متعثرة .
* وسلطة ترسل صوت رئيسها جهوريا مادام يملك -الى جانب سلطة الخطاب - كل السلطات وجميع مقومات القوة الخشنة للدولة ؛ لكنه صوت تائه في فراغ المأزق المالي والعجز عن خدمة الناس في قوتهم واحساسهم بالأمان على مستقبل غامض في بلد يغرق في عزلته الدولية وتهتز صورته الاخلاقية في اوضاع وصمه بالعنصرية وانتهاك الحقوق والحريات السياسية والاعلامية والفكرية .
في التقدير السطحي الآني يمكن لبعض المتشائمين ان يستخلصوا اختلال ميزان القوة بين حركة ديمقراطية خفت القها في السنة الثانية من مقاومة الانقلاب وسلطة " فعلت ما تريد " في خارطتها السياسية وركعت الجميع من قضاء واعلام ومنظمات مدنية ونقابية وحركة سياسية وتستعد لانفاذ قراراتها في تطهير الادارة وفرض خياراتها التربوية واستكمال نظامها السياسي .
لكن قراءة واقعية لوضعية الارتباك الذي تعانيه السلطة وللصعوبات الراهنة والقادمة التي تواجه البلاد ستؤكد لمن يحسن القراءة ان " قوة الحكم الحالي " هي مجرد قوة خاوية بأرجل من طين لا تشدها غير ادوات " العنف الشرعي " لسلطة تعاني ضبابية المشروع وانقسام المواقف ولا يحيط بها غير حزام سياسي ضعيف اخلاقيا وبشريا من وظيفيين واصحاب مصالح وكمشة من المداحين الشعبويين المتحولين مع كل واقف او الممسوكين بخوفهم من صحائفهم السوداء .
ان القوة المفترضة للسلطة القائمة ليست أكثر من قوة امر واقع لا تسنده شرعية الاداء ولا مشروعية الاسناد الشعبي .وكل قوة لسلطة امر واقع تكف عن ان تكون قوة بنيوية/ جوهرية دائمة بقدر ماهي قوة عرضية مؤقته ناتجة عن ضعف او فراغ يقابلها شعبيا ونخبويا وهو فعلا حال السلطة القائمة بعد عامين من انقلاب 25 جويلية .
في المقابل تبدو الحركة الديمقراطية او حركة الديمقراطيين مفتوحة على افق استعادة ألقها رغم ما تعانيه حاليا من ضعف وحصار .
من المؤكد انه بعد تألق مشهود له في السنة الاولى من مقاومة الانقلاب اتجهت الحركة الديمقراطية الى وضع من الضمور والارتباك لأسباب عديدة ومركبة :
اولا : تأخر انجاز الصياغة المضمونية والتنظيمية الجديدة للعمل الديمقراطي لاستئناف المسار عبر اعلان قراءة العشرية وتجديد الخطاب واعادة الالتحام بالناس برؤى وحلول جديدة .
ثانيا : العجز الاعلامي والاتصالي عن رفع اثقال ترذيل الثوة والديمقراطية في وعي الشعب التونسي وصعوبة او تعثر الاستفادة من الاسناد الحقوقي والسياسي الذي شهدته حركة مقاومة الانقلاب من الاحرار في العالم والاقليم نظرا لتعثر صياغة المبادرات وتقديم البديل البشري والمضموني ومحاصرة التشويش الوظيفي والاختراق الانتهازي .
ثالثا : وهو الأهم اتجاه السلطة القائمة الى تغيير قواعد الاشتباك السلمي عبر استعمال مؤسسات الدولة في هرسلة الديمقراطيين واعتقالهم ومحاصرة مربعات الحرية في ظل سكوت مخجل لمجتمع مدني واعلام ومنظمة عمالية خاب ظن الديمقراطيين فيهم .
ان المشهد العام بالبلاد يتجه نحو وضع سياسي تمعن فيه سلطة مأزومة في عناد وانكار لا افق له وهو ما سيدفع بالضرورة الحركة الديمقراطية الى اعداد نفسها وتجاوز ثغراتها لتستعيد في مرحلة اولى القها وانصهارها مع الناس ثم وفي مرحلة ثانية لتستعيد قيادتها للشعب التونسي كي يستعيد مساره الديمقراطي طريقا وحيدا لتحقيق انتظاراته الاجتماعية والاقتصادية لكن ذلك لن يكون الا بجهد نظري مضموني وتنظيمي هيكلي تحتاج الحركة الديمقراطية لبذله بجدية وعمق في افق الايام القادمة .
سيكون ذلك ممكنا اذا تظافرت جهود نخبة الحركة الديمقراطية في التفكير والانتاج …