أنا ميال الى اعتبار تدبير شؤون البلدان اي العمل السياسي هو مهمة النخبة التي ترتقي بوعي الناس عبر مثقفين ومصلحين وتضيق قدر الامكان من مساحة "العوام" وتوسع طبقة "المواطنين" …
المواطنة ليست درجة علمية او مكانة اكاديمية نعم .. هي منزلة يبلغها انسان عادي من الناس العاديين بعد ان يكتسب ثقافة سياسية تبنيها النخب وتروجها عبر الاعلام والاحزاب والجمعيات والمدرسة والجامعة ...
في سنوات سيلان الحرية ورواج هذا الفضاء الازرق اصبحت "الشعبوية " اي الضحالة السياسية قسمة مشتركة بين أغلب الأحزاب لأنهم اضطروا الى مخاطبة " عوام " ابقتهم النخب في مرتبة العوام واصبحت الاستجابة لأمزجتهم ومغازلة غرائزهم وحتى طلباتهم الخاطئة واحكامهم المتسرعة هي المحددة للفوز برضاهم ..وهذه هي الشعبوية المعممة في معناها الاصلي .
طبعا حين تحكم الشعبوية ترسخ كره النخب وتعمم فكرة تقديس العوام وادعاء النطق باسمهم وتحويل ضحالتهم الى سلطة تقول في كل شيء وفي كل قضية وتتهم النخب بالتعالي واحتقار الشعب ويصبح المجال العمومي هو مجال جدل العوام ويصبح الصراع السياسي هو صراع شعبوية بشعبوية مضادة ....
هذا ما نراه احيانا لدى البعض من الجمهور المنتصر للديمقراطية يقاوم الشعبوية الحاكمة بشعبوية مقابلة في ترويج الاخبار الساذجة او الكاذبة عن الخصم ويطرب لطريقة نقد الخصم المستبد بالسباب الكلامي وثورجية اللفظ ...يعني نفس الوسائل التي يواجههم بها الشعبوي الحاكم وانصاره …
لا يا عمي ...السياسة عمل النخبة والدول المتحضرة هي التي ارتقت بشعوبها الى ما يقارب مرتبة النخبة او على الاقل الى مرتبة المواطن الذي يستمع ويحترم نخبته …
تحدثت سابقا عن سياسيي البدون سيرة ...وتحدثت عن خطأ فكرة تقديس الشعوب ...الشعوب يمكن ان ينقدها المثقف بل حتى ان يقسو عليها كما فعل ابوالقاسم الشابي : ايها الشعب ليتني كنت حطابا ...هكذا تتقدم الامم...
بناء ديمقراطية مستقرة هي ايضا عملية تربوية عميقة .
كفى عنادا ...تونس الصغيرة لا تحتمل
منذ بداية موجة الاعتقالات لقيادات الصف الاول في شارعنا الديمقراطي وصولا الى اعتقال رئيس مجلس النواب الشرعي ورئيس حركة النهضة الاستاذ راشد الغنوشي ارتفعت وتيرة الغضب واتضح تضامن المجتمع الدولي والعالم الحر مع الديمقراطية التونسية المنقلب عليها .
مواقف الدول والحكومات والمنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية وكبار الصحفيين والنشطاء في كل القارات ، خرجت من تحفظها وعبرت ، خصوصا في اليومين الماضيين ومن اعلى مستوى بكل وضوح وبدون تحفظ ، عن وقوفها الى جانب الديمقراطيين التونسيين في مواجهة السلطة القائمة ليظهر موقف الحكم في عزلة دولية لن تجدي لفكها الخطابات السيادوية لأنصاره من الشعبويين والوظيفيين وصغار المحللين ولن يجدي معها الخطاب المفوت للديبلوماسية التونسية على طريقة دول الطوق الحنجورية وجبهة الصمود والتصدي في العهود الغابرة .
ضعف الحركة الديمقراطية والمجتمع المدني التونسي داخليا نظرا لما يسودهما من انقسام واختراقات ولامبالاة طيف واسع من الشعب التونسي ، والتفاف احزاب وظيفية وذات ميولات تسلطية حول حكم معزول دوليا في بلد مأزوم اقتصاديا ، ..هذا كله لا يبرر استمرار السلطة في عنادها وغرورها الذي لن يجني منه الحكم والدولة والبلاد والشعب الا مزيدا من التيه في صحراء الازمة الاقتصادية والغرق في وحل الازمة السياسية .
اطلاق سراح المعتقلين والاعتراف بالأزمة السياسية ، وابتداع حلول تسووية عاجلة تدعم الوحدة الوطنية وتستعيد الحياة السياسية الديمقراطية بمراجعة اخطاء العشرية طبعا ولكن بتثبيت مكاسبها ، والتصرف بعقل الدولة لا بغرائز انصار الاقصاء والحلول المتطرفة : هذه وحدها حلول العقل والحكمة التي تجعل تونس الضعيفة والصغيرة والهادئة والمسالمة تتجاوز مشاكلها وهي على حافة الانهيار الاقتصادي و في اجواء التسويات الكبيرة الداخلية الوطنية وبين البلدان و التي تتجه بها دول العالم والمنطقة الى سياسة براغماتية قائمة على مصالح الشعوب وامنها الغذائي والتنموي بعد صخب السنين الفارطة ....
نحن في تونس اطراف سياسية مختلفة ومتصارعة على وجهات نظر وافكار ومشاريع سياسية وعلى حلول هادئة لبلادنا ولسنا في حرب او جبهة قتال وتونس لا هي دولة مواجهة ولا مثابة ثورجيين مفوتين ولا قلعة حركات تحرر الستينات والسبعينات واحلام الشموليات الايديولوجية المتحفية العائدة من عبق بنوم بنه او هافانا او ستالينغراد ولا هي مدينة النقاط الخمس والبيان الاول ولا خط المواجهة في دمشق ومارون الراس …
نحن بلد صغير ملقى في قدره الجغراسياسي على ضفة المتوسط الدافئة وعلى بعد ساعات من السباحة نحو شواطئ الثلج والحداثة والسلمية المنتجة .. المطلوب من السياسي التونسي الحكيم والوطني ان يقدم للتونسيين مشروع حياة لا مشروع استشهاد ...فلا نحن بجميع اطرافنا في حجم العنتريات على بعضنا ولا البلاد تحتمل ولا الأمر اصلا يتطلب .
العودة الى الديمقراطية والحكم الشرعي ودولة القانون كما تعرفها المجتمعات الحديثة في عصرنا هذا ما حتمه علينا التاريخ منذ جانفي 2011 ولا راد لأحكام التاريخ وسننه ولو عاندناه . والمرور من التسلطية العقيمة الى الديمقراطية المنتجة رغم صعوباتها للنجاح والاندماج في العالم الحر المتقدم هذه هي عملة العصر ...غير ذلك عبث و عنتريات بلا افق وهدم لما افتخر به التونسيون من ثقافة الدولة وقيم الاصلاح .
هيا نتدارك امرنا بعقول مصلحين ناضحين ودعنا من صخب المتصابين ممن نكصوا الى المرحلة الفمية في عصور شبابنا الطلابي المتثورج يغطون بها وظيفيتهم لما تبقى من اجنحة التسلطية البائرة لمنظومة استبداد انتهى عصرها ....هيا يزي مالتخلويض …