المشهد السياسي راهنا ومستقبلا : احزاب النهضة والاتحاد وحزب "الحاكم" وحزب "فرانسا"
الجزء الاول : النهضة
تذكير بما سبق :
انتهيت في المقالين السابقين الى تقديرين يتوقعان حتمية قبول الحكم باشتراطات الاصلاحات الموجعة لصندوق النقد الدولي وامضاء مذكرة التفاهم حول تجديد الشراكة مع الاتحاد الاوروبي واملاءاتها الجديدة واستخلصت ان المطلوب الدولي مستقبلا هو استقرار تونس " الوظيفية " بادوارها المحددة اقليميا بعيدا عن جدل الديمقراطية والتسلطية وان كنت رجحت ذهاب الكفيل الدولي الى خيار ديمقراطية مسقوفة بديلا عن الديمقراطية الهشة والسائلة في العشرية السابقة بما يعني خيار التسلطية المحدودة دون ذهابها الى استئصالية نوفمبرية للتعددية وسلطة المؤسسات وهو ما سيقيد يد الشعبوية الحاكمة حتى لا تذهب الى خيارات الأجنحة الراغبة في توظيفها من بقايا نوفمبرية ترسكلت في الفاشية ووظيفية استئصالية تمحورت في اليسراوية والقوموية المناهضة للربيع التونسي .
انتهيت في التقديرين السابقين الى أن المشهد سيتمحور اذن في صراع " البديلين " الفاعلين حاليا : الحركة الديمقراطية بقيادة النهضة / جبهة الخلاص +السلطة الحاكمة بقيادة قيس سعيد ورفاق مشروعه الايديولوجي . واعتبرت ان هذا الصراع يتم تحت رقابة ما اسميته " عقل الدولة " و الكفيل الدولي لاختيار الطرف الأكثر تأهلا لضمان تونس الوظيفية رغم المصاعب التي يعانيها البديلان ورغم التعقيد والتركيب وتعدد الاجندات التي تخترق عقل الدولة والكفيل الدولي بماهو مفرد في صيغة الجمع .
اعتبرت ان باقي القوى الفاشية والوظيفية واذرعهما في المجتمع المدني والاعلام السائد ومربعات نفوذها المالي والرمزي هي خارج مدارات التأثير الا من حيث استعمالها من قبل الكفيل الدولي وعقل الدولة كادوات ادارة الصراع وتحسين شروط التفاوض بين البديلين الاساسيين وقد اشرت الى ان اتجاه البديلين الى التفكير في تسوية سيعيد للفاعل الوطني دوره في رسم ملامح تونس الوظيفية القادرة مع ذلك على ضمان مصلحتها الوطنية مما ينهي تماما كل حاجة للقوى الفاشية والوظيفية ويفتح الباب لامكانية بناء ديمقراطية قوية و مسقوفة ولكن بعمق وطني سيادي .
في ملامح الراهن والقادم :
يقتضي استكمال التقديرين اردافهما بتقدير ثالث نتوقف فيه عند مكونات المشهد الحالي وقدراتها في الحضور لتحديد ورسم المشهد القادم والتموقع فيه .
حزب النهضة : تمكن بالتعاون مع حلفائه التاريخيين والاستراتيجيين من تأكيد وجود قوة ديمقراطية وطنية منتصرة لمنظومة الانتقال ولدستور الثورة اي دستور 2014 وقد كانت براغماتية الحزب ووطنيته وانحيازه للديمقراطية عاملا مهما لانخراطه في دعم مبادرة مواطنون ضد الانقلاب التي خلصت ملحمة مواجهة انقلاب 25 جويلية من فخ الاستقطاب المريح للانقلاب والتي تمكنت من فرض العنوان الصحيح للمعركة :حركة ديمقراطية وطنية ثورية ضد انقلاب (ثورة مضادة / استبداد) .
لم يتمكن الانقلاب وانصاره الوظيفيين ومسانديه النقديين من الاستثمار في ازمة احزاب الحكم السابق وحركة النهضة بالخصوص لانجاز عملية استئصال الثورة والاجهاز على الانتقال باسم الثورة والوطنية والتقدمية ومناهضة الاخونة .
لقد تم اجبار الانقلاب على التصرف كقوة تسلطية استبدادية في مواجهة حركة ديمقراطية متألقة تملك خطابها وشارعها وقياداتها دون ان تحصر في حمل اعباء كذبة " العشرية السوداء " وقد تمكن مواطنون ضد الانقلاب ثم جبهة الخلاص فرض انفسهم كممثل حقيقي للحركة الديمقراطية وميراثها السياسي والحقوقي مقابل فشل القوى الوظيفية التي ناصرت الانقلاب وظلت تناصره في ان تمنحه صفة تصحيح المسار او مواجهة " الاخونة " او التبرؤ من صفة مضاددة الثورة والديمقراطية .
كما فشلت القوى الوظيفية الاخرى التي ذهب بعضها بعد اشهر الى التمايز عن 25 وعن مواطنون ضد الانقلاب في البروز كممثل للحركة الديمقراطية .
تمكنت النهضة من حسن الاستثمار في اللحظة وكانت العمود الفقري للحراك الديمقراطي ولم تتمكن هذه الوظيفية المنفضة عن 25 والتي ناهضت النهضة سابقا في برلمان 2019 من وضعها في الزاوية وكان ذلك بفضل الجهد الديمقراطي للشخصيات الوطنية التي قادت حراك مواطنون واسست لجبهة الخلاص وبفضل براغماتية و وطنية وديمقراطية النهضة في خطها الغالب قياديا وقاعديا وبفضل الانحياز الواضح الذي حسمه رئيسها ورئيس البرلمان الشرعي الزعيم راشد الغنوشي .
لا شك ان الاستهداف الممنهج للنهضة منذ اشهر في اعمدتها التنظيمية والاعلامية كان خيارا مشتركا لقوى عديدة داخلية وخارجية لتحجيم قدرات الحركة الديمقراطية الوطنية وامكانياتها التفاوضية في المرحلة السياسية الراهنة بعد ان انجزت بنجاح المرحلة الميدانية .
ولا شك ان هذا الاستهداف اعتمد على نقاط ضعف واخطاء كثيرة عاني منها الحزب على امتداد العشرية دون ان يسارع بمعالجتها ( الانتقال القيادي ..تدقيق الخط السياسي ..النقد الذاتي لتجربة الحكم والتحالفات…التناقضات الداخلية بين الخيارات والاجندات والتموقعات الدولية …سوء التصعيد القيادي والتعيينات في مراكز الحكم …العلاقة بقيم الثورة والعمق الشعبي ..ضعف الانحيازات الكفاحية للمستضعفين وسوء التعاطي مع متطلبات الاصلاح الجذري ومقاومة الفساد عوض استصحابه ) .
ولا شك ان هذا الاستهداف قد استفاد من بطء رد الفعل والذهاب الى المهام المطلوبة في المرحلة السياسية التي انطلقت مع تشكيل جبهة الخلاص.وقد كانت المرحلة تتطلب انجاز كل المراجعات المطلوبة واعلان البديل السياسي والقيادي الجديد للشعب التونسي والافصاح عن النقد الذاتي وبناء الحركة الديمقراطية الجديدة والكبيرة التي " تنحل " داخلها النهضة وتتقدم كمقترح جديد .
لكن هذا كله لا يمنع اليوم من الاقرار بأن حركة النهضة تبقى القوة الابرز في الحركة الديمقراطية بقيادة جبهة الخلاص ما يجعلهما ( الحركة والجبهة ) طرفا اساسيا في ميزان القوة ( على ضعفه) الذي يحكم البلاد ما يعني ان كل حل سياسي قادم سيكونان فيه طرفا حاضرا .
غير ان هذا الاقرار ليس حاسما ما لم تساعد الجبهة حزبها الابرز في انجاز انتقاله وتحوله ضمن التحول السلس لعموم الحركة الديمقراطية على ضوء الدروس المستفادة .النهضة وتحولاتها كما نراها لو كنا في قيادة الجبهة كان يجب ان تكون موضوعا للاشتغال والانشغال السياسي للجبهة فحزب النهضة وعموم التيار الاسلامي او القوة الديمقراطية المحافظة هي موضوع من مواضيع التفكير للحركة الديمقراطية الوطنية الكبيرة المفروض تأسيسها مستقبلا وهذا هو معنى التحالف الاستراتيجي بين القوى العلمانية الديمقراطية المؤصلة و الأصولية الديمقراطية المعصرنة .