تدقيقات منهجية أو شبه التزام ذاتي ..
يُفترض أن السنة الحالية في تونس هي سنة انتخابية اذا كُتب للبلاد الوصول بسلام الى استحقاقات خريف 2019 . و تواجه مهمة التحليل السياسي كتابة و اعلاما جملة من الضغوطات يمارسها جمهور "الأحزاب" في سياق مهامهم الطبيعية المشروعة في الدعاية و الضغط الحزبي على الكتاب و المحللين و على ساحة التفاوض الوطني العام للتنافس على عقول الناخبين و مشاعرهم .
نُدرك تماما حرص الجمهور الحزبي كما هي حاله تماما على امتداد هذه "السنوات الانتقالية العصيبة" على توجيه الرأي العام و وسائل صنعه في وضع لا يبدو فيه التحليل السياسي علما قائم الذات في سياق مشهد اعلامي لا ينكر أحد انقسام وسائله بين الاصطفافات المعلومة أو الضمنية .
في كثير من الأحيان نتفهم حرص الجمهور الحزبي على دفع المحللين و الكُتاب و المتابعين على "الوقوع" في "فخاخ" استقطاباتهم .يصر أنصار النهضة مثلا على دفع المُحلل الى اعتبار معركتهم مع خصومهم على أنها معركة "الهوية" مع خصومها و يصر المعرفون لأنفسهم بالخط "الثوري" على تمثل معركتهم مع "القديمة" على أنها معركة "الفضيلة مع الرذيلة" أو "الحقيقة " مع "الغلط" .
في المقابل يذهب جمهور الأحزاب المشتقة من شقوق "النظام" على دفع المحلل الى اعتبار معركتهم مع كل خصومهم على أنها معركة "الدولة" مع "الفوضى" و "الكفاءة" مع "الهواية" و في حالات التوتر الأقصى يذهب هذا الجمهور الى اعتبار معاركهم مع خصومهم على أنها معركة "وطنية" مع " خيانة" و "ارهاب" وصولا الى تيمات "المذنية" و "الحداثة" و "النمط المجتمعي" التي تسمح لهذا الجمهور باعتماد "الوصم" لكل من يصر على الانتصار لحدث 14 جانفي و مباركة هروب رأس النظام منذ سنوات.
جمهور تيارات اليسار و مشتقاته الاشتراكية و العروبية يمارس بدوره "شرعية" التصنيف و الاصطفاف فيقدر و يلح على أنه يخوض معركة التقدمية و الاستقلال الوطني و التحرر و بالخصوص في مواجهة خصومه الأساسيين من أتباع الاسلام السياسي بأنواعه أو من "هادنهم" من أنصار "الثورة" التي قد تتحول لدى جمهور اليسار أحيانا الى "ربيع عبري" و مؤامرة "اخوانية" اذا اقتضى الذهاب بالتحاليل التعبوية الى أقصاها.
يدرك القياديون العقلاء لكل هذه الأحزاب أننا ندرك تماما أن هذه "الادعاءات" المشروعة ليست سوى "ماعون صنعة" تعبوي حين نتركها جانبا لنحلل بشكل بارد مختلف السرديات و المواقف كما يقتضي ذلك التحليل السياسي "المهني" و "الموضوعي" و كما يقتضي ذلك اذا أردنا النزوع أكثر نحو التحليل الذي ينشد حقيقة أقصى لا نراها في اي مشروع مطروح في "السوق السياسي" و لو كان الأمر على خلاف ذلك لبقينا في مستوى انخراطنا الحزبي الذي عشناه عقودا طويلة من عمرنا قبل أن نغادره بعذ أن اكتسبنا ما ينبغي من "حصانة" لا تسمح لنا بالاكتفاء في هذا العمر بحماسة "الجمهور" الى "حزبوية" لا ترضي "حلمنا الوطني" العابر لبضائع السوق التقليدية للحزبيات .
نتفهم الجمهور الذي لن يضغط على موضوعية تحاليلنا و تفهمُنا القيادات التي تدرك أننا "نفهم " البئر و غطائه لكن فئة واحدة تزعجنا و قد تسبب قلقا دائما لفن التحليل الوافد على "ساحة الاصطفافات الضرورية " وهي فئة "أدعياء الحياد" و "الكتابة " و "التحليل" ممن لا يرتاحون الا في أجواء تحاليل "الاصطفافات الخداعة" لأنهم لا يملكون الا "نارية" التحاليل المعطوبة ابيستيمولوجيا و التي يعرضون فيها مواهبهم للبيع فيرون في ذهابنا الى التحليل العابر للانحيازات "افسادا" للأجواء الاستقطابية التي لا يحسنون قولا الا في سياقها و لهذه الأسباب تتكفل هذ الفئة و بالاضافة الى عرض مواهبها في سوق النخاسة التحليلية الى "وصم" تحاليلنا مسبقا بالانحياز بالتنقيب في تاريخ "انحيازات" سابقة لا ننكرها لكن لا أحد منهم يعثر فيها على "ضعف معرفي" في التحليل و القرب من الموضوعية فقد كنا نكتب التحليل الموضوعي بمفرذاته الاعلامية المهنية حتى و نحن في قلب الانحياز الحزبي و لمن يريد القراءة العودة الى مقالاتنا منذ عقود و التي تتوزع بين مقالات الرأي و مقالات الدعاية و التحريض .
هؤلاء المنتحلون لصفة التحليل و المختصون في نفيها عمن لا يسير سيرتهم في سطحية الانحياز المفضوح الذي يخلط بين مقالات التحليل و الرأي و الدعاية و هي فنون متمايزة و بقواعد متمايزة لا يعرفونها و لا يحسنون الانتقال بينها تمييزا و مهارة في استعمالها ..هؤلاء اخطر على "الوعي" و "المعرفة" من جمهور حزبي من حقه أن يضغط .لأن هؤلاء المحللين مجرد جهل معرفي مغلف لا يزذهر الا اذا ساد الاصطفاف و الخلط بين مستويات الخطاب و القول (تحليل ..رأي ..تحريض) و هو الخلط و الاصطفاف اللازم كي تروج فيه بضاعة "تحاليلهم" العرجاء التي لا يتبين معرفيا الى أي فنون الخطاب تنتمي اعلاميا و هو خلط ضروري يكون جوا لاخفاء تواضعهم المعرفي و عجزهم عن اتقان هذا أو ذاك أو هاذاك .
لا تحتاج الأحزاب الوطنية و جماهيرها التي تبغي النجاح و التطور الى مرتزقة تحليل "شركي" بلا قدرة على تمييز أصناف الخطاب و لا تفيدها أقلام للمجاملة أو الحرب بل تستحق ساحة تحليل و تقدير مواقف مهنية منها تستقي فهما موضوعيا لوضعها و وضع منافسيها كي تصلح نفسها و تجود أدائها …مهمة الدعاية و هو فن نبيل يتكفل به الأنصار و لا حاجة لهم الى عارضي خدمات يتنكرون تحت أقنعة "محللين" ..هذا تقديري و الله أعلم .