منذ 25 جويلية لم تعد في الحقيقة طبقة الفاعلين في حدث " الانتقال الديمقراطي" من أحزاب ومنظمات مجتمع مدني وعلى رأسهما النهضة سياسيا واتحاد الشغل نقابيا شركاء في السلطة أو معطلين لعملها . أصبحت الدولة ومؤسساتها الادارية واجهزة عنفها الشرعي الرمزي والمادي في يد رئيس الجمهورية وفريقه الحاكم .
كل ما انجزته المعارضة الديمقراطية المناهضة للحكم هو تأكيد صورة افتكاك السلطة بالقوة من رأس السلطة التنفيذية في قرطاج اي أحد رؤوس السلطتين الشريكتين في الحكم وفق دستور 2014 . وباستثناء التحركات الميدانية التي اثبتت وجود استقطاب سياسي بين حكم /انقلاب ومعارضة/ ديمقراطية فلم تتمكن المعارضة واقعيا من تعطيل ما تريد السلطة انجازه.
بناء على هذا التقدير يستغرب البعض اقدام الدولة والسلطة التي تحكمها حاليا على ازاحة " الحاجز الواقي " الذي كانت تبرر به تعثرها في انجاز ما وعدت به شعبها .خصوصا وان بعض المحللين ظلوا يكررون ان استمرار السلطة رغم عجزها عن الانجاز هو بسبب استفادتها من الاستقطاب مع "المعارضة المرفوضة شعبيا" حسب تقديرهم وبالخصوص من الاستقطاب مع الغنوشي والنهضة . فماهي مبررات هذه الخطوة ؟
من الواضح ان ايقاف الغنوشي والاستعداد لحل النهضة واغلاق قوس الحياة السياسية التي استمرت في حدودها الدنيا منذ سنتين يحقق اهدافا متعددة متقاطعة للأطراف الحاكمة حاليا :
أولا : الالتجاء الى أهم الاوراق التعبوية لجمهور السلطة الحاكمة وللأحزاب الوظيفية والقوى السياسية المحلية والدولية المترددة في دعم مسار قيس سعيد بسبب تردده في استئصال الاسلاميين .هذا الالتجاء الى اثقل الاوراق هو ضرورة حتمية لتجنب تصدع القوى المتحالفة في الحكم من جهة واستباقا للصعوبات القادمة حتما سواء بقبول توصيات صندوق النقد او رفضه .
ثانيا : ان اغلاق قوس الانتقال والاجهاز على كامل المشهد الذي انتجته ثورة 2011 وانهاء حركة النهضة اساسا يمنح "الدولة" واجهزتها وادارتها ونواتها السياسية الأصلية منذ عقود قدرا من الاطمئنان عبر استعادة حكمها كاملا دون شراكة من اي طرف اخر - بمن في ذلك من اضطرت للتسوية معهم لمواجهة الاسلام السياسي مثل النقابات واليسار الوظيفي او حتى المحمولين ظاهرا على قيادة حدث 25 جويلية - بما ينهي وضعية ارتباكها الانتقالي الفصامي بين نزعتها الفطرية للتسلط واكراهات القبول بمقتضيات الانتقال . واذ تعتبر "الدولة" حاليا ان الظرف الدولي اصبح مناسبا للاجهاز على مخرجات 2011 فهي لن تتردد في طاعة "السلطة" الحالية بما يمكنها من استعادة سطوة نواتها السياسية الاصلية الحاكمة ما قبل 2011 .
ثالثا : قبول " الدولة " حاليا - وبعد تحفظها وترددها طيلة السنة الماضية- بالذهاب الى هذه الخطوة القصوى في مواجهة معارضتها يأتي من قراءة مفترضة للوضع الجيواستراتيجي باستخلاص ان التقاطع بين هدف استئصال النهضة وحلفائها واستئصال كامل مخرجات 2011 لن يجد اعتراضا بل ربما وجد قبولا من اهم لاعبين دوليين في الاقليم في ظل التحولات الصاخبة واجواء الصراع للهيمنة عليه ( الاقليم ) وحتى اذا لم يكن الهدف الاستراتيجي لهذين اللاعبين هو استعادة استبداد ما قبل 2011 فسيتحقق بهذا الاستئصال المزدوج الترتيب الجديد للمشهد السياسي التعددي بعيدا عن الاوزان التي عرفتها العشرية الماضية والتي ظل فيها " اسلاميو الغنوشي " الرقم الأهم في موازين القوة او الضعف مع اضمحلال نداء تونس وضعف اليسار و تشتت الدساترة .
لكن السؤال الصعب الذي لم تطرحه " الدولة " و " السلطة" وهما يذهبان الى الخيار الأقصى هو : بعد ان تصبح الدولة والسلطة الحالية في طريق مفتوح مع شعبهما هل ستتمكنان من تحقيق المطلوب اقتصاديا واجتماعيا خصوصا حين تزول كل التبريرات السابقة عبر الاتكاء على المعارضة الخائنة والمعطلة ؟....هذا هو السؤال الذي سيكون على " الدولة " وحدها ان تجيب عنه ...أما "السلطة" فمتحولة باستمرار